سنوات مضت عشناها بكل قوتنا، وزرعنا فيها من أرواحنا ودمانا ودموعنا حبات قلوبنا، سقط منا من سقط، وبقى من بقى، لحظات سعادة نادرة، ولحظات صعبة كثيرة. لحظات خوف ولحظات ضعف تبعتها لحظات شجاعة ولحظات قوة، ولكن الحياة أبدا لن تتوقف، لن تتوقف عند شخص يذهب، أو على شخص يعود أيا كان ومهما كان. هما فقط الكلمتان السحريتان اللتان لا يتغيران أبدا مهما بدتا مملتين، الصبر.. والإيمان، وبغيرهما لا انتصار، لا أعرف انتصارا حدث بغير صبر، ولم أسمع عن انتصار تحقق بغير إيمان، هما مقياس قوتنا، ومقياس قوتنا الوحيد، وما أكثر الذين انهاروا فى امتحان الصبر والإيمان ثم جلسوا يندبون حظوظهم ويبكون على أحوالهم مستسلمين للشعور بالأسف على أنفسهم. نعم لم تتحقق عدالة انتقالية أو غير انتقالية، ونعم لم يصدر قانون عزل سياسى، وها نحن نرى اليوم ونسمع أن قطبا من أقطاب الحزب الوطنى يجمع أنصاره ويستعد لخوض الانتخابات البرلمانية القادمة. وها نحن بالجملة نرى رجال النظام القديم يطلون برؤوسهم من الجحور، ويحاولون النيل من ثورة عظيمة، ثورة 25 يناير، الثورة التى أُلقى اليوم بجانب من شبابها فى السجون ولا يزالون. فماذا نحن فاعلون؟ هل نسلم ثورة 25 يناير تسليم أهالى ، ونعود من حيث أتينا ونضيع أمجد وأعز، بل وأجمل لحظات تاريخنا؟ جرثومة موتها كانت باستمرار أنها كانت ثورة بغير قيادة، وبغير نظام أساسى مايخرش المية، يضمن انتظام عملها بغير خلافات أو انقسامات. لطالما قلت إن أى تجمع فى مصر يزيد عدد أشخاصه على شخص واحد هو تجمع قابل للاختراق، وهكذا اخترقت الثورة من مدعين ونصابين وطبالين لا يكفون عن التغنى بحب مصر، وغيرتهم عليها، وخوفهم على مصلحتها، ثم يوضع السم فى العسل ويحل الدمار، دمار الأحلام والآمال، فقط لأنها لم تتحقق بالسهولة والسرعة الكافيتين، البنزين خلص يعنى! إن الأشخاص يقاسون بتاريخهم ومواقفهم، وما سبق أن فعلوه فى ماضيهم ما قبل الثورة، ولكننى رأيت كثيرين من هؤلاء الذين طبلوا لمبارك ونظامه هم الآن من عتاة الثوريين، ويتكلمون عن ثورة 25 يناير، كأنهم ملاكها وأصحابها الحقيقيون. رأيت انقسامات مريعة وموجعة بين الشباب، وتحولت 6 أبريل إلى 6 أبريل المركز و 6 أبريل البلد ، والاثنتان تتشاتمان وتقتتلان إلى أن انتهيتا معا، وذهبت ريحهما بحماقة منقطعة النظير، فأصبح مجرد الإتيان على سيرتهما تهمة نكراء! فعَلَا هذا بنفسيهما ولم يفعله بهما أحد. والسؤال الآن، كيف لا يوجد لثورة 25 يناير كيان معروف حتى الآن يمثل مطالبها ويدافع عن الأسباب التى من أجلها قامت، يراقب الحكام ويقف لهم بالمرصاد، إذا ما رأوا منهم خروجا على مبادئها؟ كيان قوى منتشر متشعب مؤثر يتصدى لحملات التشويه ويطوف أرجاء البلاد، يبشر لمبادئها، ويدافع عن ذلك الشباب المحبوس بكل الطرق فى كل طلعة شمس؟ أين ميثاق 25 يناير المطبوع؟ أين حزب ثورة 25 يناير؟ أين مشاريع القوانين التى تريد تقديمها للدولة؟ أين مشروع عدالتها الانتقالية؟ ممَّ نخاف؟ من موجات الهجوم والانتقاد والتدخلات وعواصف الاتهامات سابقة التجهيز؟ وهل تستحق مصر أن نتركها لأن ظروفها صعبة وأحوالها مش ولا بد، ثم نقول إننا نحبها، بل ونحلف على ذلك ميت إيمان ويمين فى كل يوم وساعة؟ وكيف يقاس الحب إذن؟ باللحظات السعيدة أم بالاستمساك والصلابة فى اللحظات الصعبة؟ سوف تشرق الشمس كل صباح شئنا أم أبينا، وغدا يوم جديد نتعلم فيه من تجارب أمس ودروسه ومراراته، نتعلم منها كيف نمتنع عن الوقوع فى الخطأ ذاته مرتين، ثم نتعلم كيف نقيّم أنفسنا وبأى مقياس موضوعى صحيح نقيس غيرنا، ثم نتعلم أخيرا كيف نترك الماضى خلف ظهورنا، ولا نتوقف عنده مهما عز علينا، لننظر إلى يوم جديد وأمل جديد وحلم جديد، نستلهم فيه من قلب ضعفنا قوة، ومن قلب خوفنا شجاعة، ومن قلب تخاذلنا مواجهة، ثم سنقف لنرى من وقف بجوارنا قويا فى الساعات الصعبة، ومن تخاذل وسد أذنيه واختار الانسحاب. إن مصر صعبة، صعبة بالفعل، وتنوء بالهم والمشكلات وتشكو وتئن، وميراث الفساد فيها وصل إلى نخاع العظم، ولكن، رغم كل ذلك فهى وطننا الذى ليس لنا غيره، وهى وطن جميل يحسدنا عليه العالم كله، وطن يستحق. يجب أن لا ننسى من كان هناك فى قلب الخطر فى الميدان، من ساند الثورة، ومن تخاذل وتراجع، ومن حضر متأخرا بحثا عن مكاسب، والأهم من ذلك كله أن لا ننسى كم كلفتنا، ومن أجل أى شىء قامت، والملائكة الخضر الذين استشهدوا فيها. إن من لا يصدق أن شمسا ستشرق يوما، لن يستطيع أن يراها حين تشرق.