كان الرئيس عبد الفتاح السيسى محقا حين قال وهو يفتتح توسعات فى مطار الغردقة قبل أيام: «ماحدش يقدر يرجّع مصر للماضى.. إنتم ماتعرفوش إنتم عملتم إيه يا مصريين، إنتم غيَّرتم الدنيا كلها». قطعا لا يستطيع أحد أن يعود بمصر إلى الماضى، لكن السؤال الأهم: هل غادر الماضى مصر؟! أو ألقت مصر الماضى خلف ظهرها وراحت تبحث عن مستقبل مختلف؟! أظن -وظنى كله حلال- أن مصر ما زالت تحيا فى الماضى، نظاما وأساليب وأدوات، وبالطبع حدثت فيها تغييرات بعد ثورة 25 يناير، أنها أزاحت رئيسا وبطانة، ثم كرّرت نفس الفعل فى 30 يونيو ، وأطلّت برأسها على عصرها الحديث حاملة راية: عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية ، لكنها لم تتمكن من عبور الهاوية الفاصلة بين الماضى والمستقبل، والماضى ليس شخوصا، حتى لو كانوا بضعة رؤساء: رئيس جمهورية ورئيس برلمان ورئيس وزراء ورئيس مجلس شورى ورئيس ديوان، ورئيس مخابرات ورئيس أمن دولة ورئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير ورئيس جامعة ورئيس إدارة ورئيس قسم.. الماضى هو الطريقة التى يعيش بها المصريون والأسس التى تمضى عليها حياتهم، والقواعد التى تحكم تصرفاتهم العامة والخاصة، قد تكون بعض التغييرات قد أصابت الهوامش وعدّلتها، لكن ظل قلب الطريقة والأسس والقواعد صامدا مسيطرا حاكما نافذا! باختصار لن يستطيع أحد أن يعود بمصر إلى الماضى، لأن مصر لم تغادره، لم تخلعه، لم تكسب قضيتها فى الطلاق البائن منه، وما زال يمسك بتلابيبها فى بيت الطاعة، كما لو أنه واخد عليها حكم نهائى وبات ، وبعض المصريين يتصوّر أن هذا أكثر أمانا لها، وعلى رأى المثل ظِلْ نظام قائم ومسيطر أحسن من ظل حيطة، حتى لو كان نظاما مائلا ومعوجا وفاسدا، لأن الحيطة طلع فيها عفاريت انفلات أمنى وفوضى وتسيّب ومؤامرات! . وطالب الرئيس من المصريين الصبر عامين حتى تظهر نتائج أعمال عدم عودة الماضى ، وهو محق فى الطلب، فالمجتمعات لا تتغير بين يوم وليلة، خصوصا فى مجتمع محافظ مثل المجتمع المصرى. لكن السؤال: ما ملامح صناعة مستقبل مختلف عن الماضى؟! هل المستقبل هو مشروعات عظيمة وكبرى؟ هل المستقبل افتتاح توسعات واستصلاح أراضٍ ومد طريق وبناء كوبرى وتأسيس شركات بالمليارات أم المستقبل هو رؤية عصرية وتفكير مختلف وطرق مختلفة وأساليب وقواعد جديدة تتمتع بأهم عنصرين هما: الكفاءة والعدالة؟! ألم يكن مبارك يفتتح كل بضعة أيام مشروعات جديدة دون أن يأخذ مصر إلى طريق العدالة والكفاءة؟! وبالطبع كان الرئيس السيسى محقا فى أن المصريين صنعوا معجزة غيّرت الدنيا، وكانت معجزتهم أن حموا أنفسهم من مؤامرة جهنمية، وأفشلوا تدبيرا شيطانيا كان معدا لتفكيك دولتهم، وصنعوا ذلك بمنتهى البساطة والأريحية والعفوية، وقد يكون هو الذى شتت انتباههم وعطّلهم عن قطع يد الماضى الماسك برقابهم! سيادة الرئيس.. الماضى لن يعود، لأنه لم يغادرنا بعدُ، وسيبدأ فى الرحيل حين نقطع جذور نظام الامتيازات والاستثناءات السائد فى مصر، النظام الذى يقسّم مواطنيها إلى نوعين: أولاد البطة البيضاء وهم قلّة، أفرادا ومؤسسات، لهم كل الامتيازات والاستثناءات، وأولاد البطة السوداء وهم غالبية لهم بعض الدعم فى الموازنة وكثير من الدعاء!