فى الأيام الماضية صدر حكم قضائى فجَّر كثيرا من الأسئلة، وأدى إلى مزيد من القلق على العدالة ومفهومها لدى بعض القائمين على حمايتها، وهى قضية بعيدة تماما عن السياسة، وأبطالها لا علاقة لهم بها من قريب أو بعيد، ولكنها تكشف عن خلل غير قليل فى محراب العدالة. طفل صغير اتهم بسرقة خمسة أرغفة ثمنها 25 قرشا تم الحكم عليه بإيداعه دار الرعاية لمدة عام، ولولا أن الأب انتبه وقام باستئناف الحكم وتصالح مع صاحب الأرغفة الخمسة لكان تم تنفيذ هذا الحكم العجيب، الذى ألغته محكمة الاستئناف وأمرت بتسليم الطفل إلى أسرته، قد يكون الطفل أخطأ عندما امتدت يده إلى ما لا يملكه، ولكن أى عدالة تلك التى تنشغل لمدة عامين كاملين بقضية لا تتجاوز قيمة المسروقات فيها ربع جنيه، شرطة تتحرى عن الواقعة، ووكيل نيابة يحقق فى البلاغ ومحكمة تنعقد ويكون ضمن قضاياها التى تدرسها وتشغل حيزا من تفكيرها، وتراجع من أجلها القوانين والأحكام السابقة وتصدر حكما، وكل هذا من أجل ربع جنيه، ألم يجد رجل الشرطة ما يشغله عن هذه القضية، وألا توجد أمام وكيل النيابة الذى حقق فيها بلاغات أهم، وهل ليس لدى القاضى الذى حكم مع كامل احترامنا وتقديرنا له قضايا أخطر، ليس أمامنا إلا احتمالين، إما أن يكون كل هؤلاء انشغلوا فعلا بقضية الأرغفة الخمسة، وأضاعوا وقتهم ومال الدولة هدرا وعبثا وهذه مصيبة، وإما أن أوراق القضية تحركت فى آلية دون أن يقرأها أحد، وتحولت من الشرطة إلى النيابة التى أرسلتها إلى المحكمة، وأصدر القاضى حكمه دون أن يطلع أحد على أوراقها بجدية، وهذه مصيبة أكبر، وإذا كانت هذه هى طريقة العمل التى تسير بها المؤسسة التى تحمى حقوق المواطن المصرى، فإن الخطر يحدق بنا جميعا، لماذا لم يفكر أحد فى حفظ القضية لهيافتها؟ أو لماذا لم يدفع أحد الربع جنيه لصاحب الأرغفة المتعنت بدلا من كل ما تم إنفاقه من جهد ومصاريف؟ كنت أتصور أن تقوم وزارة الداخلية والتفتيش القضائى بالتحقيق فى الواقعة ومعرفة ماذا وجد الضباط ووكلاء النيابة والقضاة فى قضية محتواها ربع جنيه لكى ينشغلوا بها لمدة سنتين كاملتين؟ ولماذا صدر فيها حكم كاد يقضى على طفل أخطأ ويضعه مع اللصوص والنشالين والمتسولين لمدة عام ليخرج بعدها محترف إجرام بدلا من إكمال تعليمه؟ أعلم أن القاضى تصرف بناء على نصوص القانون وأصدر حكمه طبقا له، ولكن أين روح القانون فى التعامل مع طفل امتدت يده إلى أرغفة عيش أكلها هو وزملاؤه بعد خروجه من المدرسة لأنهم كانوا جائعين؟ أين العقلية القانونية التى تصدر أحكاما تتناسب فيها العقوبة مع الجرم؟ ألا يحتاج الأمر إلى دراسة لمعرفة كيف يعمل ويفكر ويحكم القضاة وهم فى بداية حياتهم القضائية؟ وما الدراسات التى يحصلون عليها والتدريبات التى تلقوها لكى يطوروا من عملهم وأفكارهم ومفاهيمهم للعدالة؟ ألا يحتاج الأمر إلى دراسة تغيير طريقة اختيار المنضمين الجدد إلى سلك النيابة والقضاء؟ غير بعيد عما سبق قرار المجلس الأعلى للقضاء بمنع أولاد غير الحاصلين على مؤهل عالٍ من الالتحاق بالنيابة والقضاء، وهو قرار ينتهك الدستور من القائمين على حمايته، ويزدرى العمال والفلاحين الشرفاء، كنت أتمنى أن تفسر لنا أكبر هيئة قضائية والتى نكن لها كل احترام سبب التمسك بهذا القرار المعيب، وما الأسباب المهمة والضرورية التى دعتها إلى خرق الدستور وانتهاك مبدأ المواطنة والمساواة، ألا يجعلنا هذا نشعر بالخوف على العدالة فى بلدنا؟ أعتقد أن الأمر يحتاج إلى إقامة مؤتمر للعدالة يتم فيه مناقشة كل المشكلات التى تعرقل العدالة فى مصر بصراحة ووضوح ودون مواربة، وأن نعيد النظر فى بعض مواد قانونى العقوبات والإجراءات الجنائية التى تشغل المحاكم والقضاة بقضايا صغيرة وتافهة، وأن تجد حلا لها بعيدا عن التقاضى، أعرف أننى دخلت منطقة شائكة، ولكننى أؤمن أنه إذا لم يكن هناك قضاء مستقل وعادل ومدرك لمفهوم العدالة فلا أمل فى المستقبل، وسنظل أسرى لعدالة الربع جنيه .