بقلم الدكتور زكي سالم: من الواجب علينا أن نتعلم من تجاربنا الشخصية فى هذه الحياة، وكذلك علينا أن نستفيد من تجارب الآخرين وخبراتهم، لعلنا نصل يومًا إلى مقام «الحكمة»، أو نرتقى إلى مصافِّ الحكماء. فقد قال تعالى فى محكم كتابه: « يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ» (البقرة 269). فما الحكمة؟ ثمة تفسيرات كثيرة لمعنى الحكمة ومدلولها، ولعل أبسطها هو الفهم السليم، ووضع الأمور فى نصابها، ورأس الحكمة مخافة الله، وثمة حكماء كبار فى تاريخ البشرية، ومنهم الملك سليمان (النبى)، كما جاء فى العهد القديم فى سفر الملوك الأول: وأعطى الله سليمان حكمة وفهمًا كثيرًا جدا ورحابة قلب كالرمل الذى على شاطئ البحر. وفاقت حكمة سليمان جميع بنى المشرق وكل حَكمة مصر. وكان أحكم من جميع الناس فلنتأمل قليلا فى بعض جوانب حكمته المذكورة فى ثنايا الكتب المقدسة. فقد جاء فى التوراة: تراءى الرب لسليمان فى حلم ليلا. وقال الله أسأل ماذا أعطيك. فقال سليمان إنك قد فعلت مع عبدك داوود أبى رحمة عظيمة حسبما سار أمامك بأمانة وبر واستقامة قلب معك فحفظت له هذه الرحمة العظيمة وأعطيته ابنًا يجلس على كرسيه كهذا اليوم. والآن أيها الرب إلهى أنت ملكت عبدك مكان داوود أبى وأنا فتى صغير لا أعلم الخروج والدخول. وعبدك فى وسط شعبك الذى اخترته، شعب كثير لا يحصى ولا يعد من الكثرة. فأعط عبدك قلبًا فهيمًا لأحكم على شعبك وأميز بين الخير والشر، لأنه من يقدر أن يحكم على شعبك العظيم هذا. فحسن الكلام فى عينى الرب، لأن سليمان سأل هذا الأمر. فقال له الله: من أجل أنك قد سألت هذا الأمر ولم تسأل لنفسك أيامًا كثيرة ولا سألت لنفسك غنى ولا سألت أنفس أعدائك، بل سألت لنفسك تمييزًا لتفهم الحكم. هوذا قد فعلت حسب كلامك. هوذا أعطيتك قلبًا حكيمًا ومميزًا حتى إنه لم يكن مثلك قبلك ولا يقوم بعدك نظيرك. وقد أعطيتك أيضًا ما لم تسأله غنى وكرامة حتى إنه لا يكون رجل مثلك فى الملوك كل أيامك . وفى العهد الجديد: إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللّٰهِ الَّذِى يُعْطِى الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ. وَلٰكِنْ لِيَطْلُبْ بِإِيمَانٍ غَيْرَ مُرْتَابٍ الْبَتَّةَ، لأَنَّ الْمُرْتَابَ يُشْبِهُ مَوْجًا مِنَ الْبَحْرِ تَخْبِطُهُ الرِّيحُ وَتَدْفَعُهُ. فَلاَ يَظُنَّ ذٰلِكَ الإِنْسَانُ أَنَّهُ يَنَالُ شَيْئًا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ . (رسالة القديس يعقوب). ومن آيات سليمان فى الحكم، ما كان منه حين جاءته امرأتان تتصارعان على طفل، كلتاهما تقول إنه ابنها، فقال الملك اشطروا الولد الحى اثنين وأعطوا نصفًا للواحدة ونصفًا للأخرى. فتكلمت المرأة التى ابنها الحى إلى الملك. لأن أحشاءها اضطرمت على ابنها. وقالت استمع يا سيدى. أعطوها الولد الحى ولا تميتوه. وأما تلك فقالت لا يكون لى ولا لك. اشطروه. فأجاب الملك وقال أعطوها الولد الحى ولا تميتوه فإنها أمه. ولما سمع جميع إسرائيل بالحكم الذى حكم به الملك خافوا الملك، لأنهم رأوا حكمة الله فيه لإجراء الحكم (سفر الملوك الأول). وثمة قصة أخرى فى القرآن الكريم: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا . (سورة الأنبياء 78و79)، وتقول كتب التفسير، إن صاحب حرث، نفشت فيه غنم قوم آخرين، أى رعت ليلًا، فأكلت ما فى أشجاره، ودمرت زرعه، فقضى فيه داوود، عليه السلام، بأن الغنم تكون لصاحب الحرث، نظرًا إلى تفريط أصحابها، فعاقبهم بهذه العقوبة، وحكم فيها سليمان، عليه السلام، بحكم آخر، بأن أصحاب الغنم يدفعون غنمهم إلى صاحب الحرث فينتفع بدَرِّها وصوفها، ويقومون على بستان صاحب الحرث، حتى يعود إلى حاله الأولى، فإذا عاد إلى حاله، ترادّا ورجع كل منهما بما له! وهذا الحكم المذكور فى كتب التفسير، قد يبدو لنا غريبًا، أو بمعنى آخر حل غير عملى، ومن ثم سنتوقف عند حدود قوله تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ أى: فهمناه الحكم الأكثر عدلا فى هذه القضية، بغض النظر عما جاء فى كتب التفسير المتعددة التى تكرر ذات الحكم. وفى سورة النمل: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ. وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِى النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضَاحِكا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ . (الآيات: 16-19). فكل هذا المُلك العظيم، وكل هذا الجاه الهائل، وكل هذه القدرات الخارقة، لا تغر الإنسان الحكيم بحيث ينسى أصله، ولا تبعده هذه النعم الكبرى عن موقعه الحقيقى فى هذا الكون كعبد يطيع سيده، ويعمل الخير، ويتشبث بمقامى الشكر والصبر. فقد قال سبحانه وتعالى: اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُور . (سبأ 13) أى أن الشكر الحقيقى هو عمل الحكماء المتحققين. وقد جاء فى الكتاب المقدس: وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته (سفر الملوك الأول). وفى إنجيل متى، يقول السيد المسيح عليه السلام: مَلِكَةُ التَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِى الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَتَدِينُهُ، لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِى الأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ ههُنَا. (متى 12: 42). فملكة سبأ أتت من أقصى الأرض سعيًا وراء المعرفة، وحبا فى الحكمة، فما بال أقوام يتاح لهم من هو أعظم من سليمان، ولا يتعلمون منه، ولا يستمعون لبالغ حكمته! إذ جاء فى التوراة: وسمعت ملكة سبأ بخبر سليمان لمجد الرب فأتت لتمتحنه بمسائل. فأتت إلى أورشليم بموكب عظيم جدا بجِمال حاملة أطيابًا وذهبًا كثيرًا جدا وحجارة كريمة وأتت إلى سليمان وكلمته بكل ما كان بقلبها. فأخبرها سليمان بكل كلامها. لم يكن أمرٌ مخفيًّا عن الملك لم يخبرها به. فلما رأت ملكة سبأ كل حكمة سليمان والبيت الذى بناه وطعام مائدته ومجلس عبيده وموقف خدامه وملابسهم وسقاته ومحرقاته التى كان يصعدها فى بيت الرب لم يبق فيها روح بعد . (سفر الملوك الأول). وقد ذكر القرآن فى سورة النمل، قصة ملكة سبأ مع سليمان، بداية من حواره المدهش مع الهدهد، الذى اكتشف هذه المملكة التى يسجد أهلها للشمس من دون الله، وحتى قالت بلقيس: رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ولنتوقف عند قول سليمان: هذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِى أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِيٌّ كَرِيمٌ . (الآية 40) فكل نعم المولى، عز وجل، هى فى حقيقة الأمر ابتلاء للبشر، ولا ينجح فى عبور هذا الاختبار إلا من أُوتى قدرًا من الحكمة، ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه، وهذا ما يدركه أولو العلم من الحكماء. وثمة ملاحظة مهمة يمكنك أن تراها بوضوح فى (سورة ص)، فبعد ما بين لنا الحق، سبحانه وتعالى، كيف سخر كثيرًا من المخلوقات لخدمة سليمان، قال: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ . (الآية 41). وهذا الربط بين نبيين كريمين (سليمان وأيوب) يثير التفكر والتأمل، فأحدهما كان على قمة الملك والقوة، والمجد والجاه، و.. و..، والآخر على النقيض من ذلك، لكن هذه المسافة الشاسعة بينهما فى الظاهر، لا تعبر عن حقيقة الباطن، فلعلهما فى القرب سواء، فكلاهما مستقر فى مقام النبوة السامى. وفى التوراة كلام عن حب الملك سليمان لنساء غريبة كثيرة، وكانت له سبع مئة من النساء السيدات وثلاث مئة من السرارى فأمالت نساؤه قلبَه. وكان فى زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملْن قلبه وراء آلهة أخرى ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب إلهه كقلب داوود أبيه . (الإصحاح الحادى عشر من سفر الملوك الأول) فى حين أن القرآن العظيم برأ سليمان، فى قوله تعالى: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا . (البقرة 102). وتبقى فى نهاية حياة سليمان، عليه السلام، عبرة وحكمة أيضًا، فقد قال تعالى: فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا فى العذاب المهين . (سورة سبأ 14). وهكذا أراد الحق، سبحانه وتعالى، أن تكون فى ملابسات رحيل هذا النبى الحكيم، عن هذه الدنيا، عبرة لمن يعتبر من أحسن القصص، كما يكون فى سقوط جسده على الأرض بفعل أهون المخلوقات حكمة لمن يستوعبها من أولى الألباب.