لماذا يصرّ أعداء الديمقراطية على كتابة الدستور؟ هل يتصورون أن عداوتهم للدولة الحديثة يمكن أن يفجّرها من الداخل؟ لجنة تأسيس الدستور هندسها الإخوان والسلفيون بمشاركة تيارات من أحزاب الهرولة وشخصيات تتمحَّك فى الحياة العامة. ولم يكن مدهشا أن تكتظ برموز من كارهى الديمقراطية أو مكفّراتية الدولة الحديثة، بداية من الشيخ الذى يعتبرها وثنًا لنشر الرذيلة والانحراف إلى من يتصور أن الديمقراطية جسر للوصول إلى السلطة يتم تدميره بعد إعلان دولتهم، دولة المشايخ، وكلاء الله على الأرض، ونموذجها المبدع فى قندهار والخرطوم والسعودية. هكذا تبدو خلطة اللجنة التأسيسية فى طريقها إلى الجمود مرة أخرى، هذه المرة وبعد وصول معادلة الاستقطاب الإسلامى / اللا إسلامى إلى نفس الصفر، فالدستور خندق أخير واللعب فيه على الاستقطاب لا يؤدى إلا إلى التحصن فى الخندق وإعلان التفوق أمام جمهور محبَط من انهيارات الإسلاميين فى معارك ما بعد الخروج من الكهف. بدت المحاولة الثانية لتأسيس «التأسيسية» على الاستقطاب محبِطة أكثر، لأنها كشفت عن أن الإخوان لم يتعلموا سوى الطهى السياسى.. الإخوان يقودون السلفيين فى طبيخ للدستور. طهاتهم هواة لا يخجلون من نشرهم الطبيخ الفاسد الكريه.. مَن يراهم يتخيل أنهم فِرق جاءت لتعاقب المصريين وتنتقم منهم، يتصورون مقاعدهم خيلا ينشرون بها الإسلام فى بلد مسلم، يتصورون أنفسهم شطارا فيضعون على طبختهم بُدرة تحلية لإخفاء معالم الطبخة. إنه مزاج متطرف يعادى الدولة الحديثة ويتمسَّح بها. ينشر خطاب التطرف والهوَس ويسميه «صحيح الدين».. كأن المجتمع هو الفاسد لا السلطة، أو كأن الديمقراطية عقاب سيجعلنا نلعن الثورة. إنهم وقعوا فى الفخ الذى نصبته الأيادى المدرَّبة وأعلنوا عن مخطط استيلاء على الدولة وخطفها.. مخطط ساذج ويشبه المحاولات المصرية فى صناعة أفلام خيال علمى. مخطط يعطِّل الثورة ويمنح للمعسكر فرصة تاريخية للظهور كحامٍ للدولة الحديثة.. وهو الوهم الذى عشناه 60 سنة وأفقنا منه على المافيا الحاكمة. طهاة الإخوان والسلفيين، إمكاناتهم فى التخفى محدودة، ولهذا فإنهم كشفوا عن البحث عن الغنائم واعتبروا أن حصة الإسلاميين هى حصة حزبَى الحرية والعدالة والنور، وأن الأزهر وحزب الوسط (بمرجعيته الإسلامية) والبناء والتنمية (حزب الجماعة الإسلامية) لها نصيب فى الحصة المدنية. نظام الحصص مدهش وطائفى فى مجتمع بلا طوائف، لكنه وضع يسهل معه التحكم فى إيقاع الحراك السياسى بوضعه تحت ضغط الاستقطاب وإثبات الهويات من المدنى ومن الإسلامى.. اللافتات تُوضَع ويُصَفّ تحتها خليط متشابه. الحصة لا غيرها هى المعيار. والمغانم لا غيرها هى محدِّد اللعب فى معركة الدستور. لم يكن هفوة عابرة وضع الدستور فى إطار لعبة توزيع المغانم.. إنها معركة المعارك لمن يتصور أن الثورة قامت لتكون جسرا، يعلن من عليها دولته. انتصار يتجسد فى خطف الدستور من طهاة الكراهية، وهذا ما يؤكده ضم أسماء ضد الديمقراطية والدولة الحديثة بقيمها التى تُعلِى من المساواة والعدالة.. هذه أسماء لا ترى فى الأقباط إلا كَفَرة نستضيفهم فى بلادنا على سبيل كرم الأخلاق ومقابل دفع الجزية.. وهذا تثبيتُ عِنْدٍ لدولةٍ لم تعد صالحة للاستنساخ كانت فيه حدود الدولة تتم بالغزو وبالسيطرة، وعلى الغريب دفع مقابل حمايته.. الدول الحديثة ليست كذلك، والجميع مواطنون يتمتعون بكامل الحقوق والأهلية. إنهم وكلاء طائفية فى مجتمع لم تترسخ فيها الطوائف ولا يوجد جسدها السياسى. الطائفية هى جسد سياسى يرفع رايات دينية أو عرقية، لكنها فى مصر أضغاث أحلام، مجموعات متطرفة لا يمكن أن توجد إلا بتقسيم المجتمع بين مسلمين وغير مسلمين أولا، ثم بين مسلمين عاديين ومسلمين على حق.. إلى آخر هذه التقسيمات التى تصنع لك شيخا لا يحافظ على مكانه إلا بمزيد من التطرف. مَن صاحب المصلحة فى تأسيس الدستور على وَهْم الطائفية؟.. هل هم العسكر الذين يريدون صناعة الفُرقة؟ أم الإسلاميون الذى لا يريدون صدمة جمهورهم الذين تمت تربيتهم على الشحن المعنوى بانتظار حلم الخلافة الذى لن يتحقق؟