حكى لى صديق فقال: لم أكن أتصور أن الدنيا يمكن أن تفعل بالناس ما حدث لنا فى مصر. لقد كنا أسرة متوسطة عادية تربينا على الفضيلة والخير، ليس فى حياتنا أى نوع من التهتك.. الستر هو القيمة الكبرى التى تعلو على ما سواها. الأولاد والبنات يذهبون إلى المدارس والجامعات. نجتمع حول التليفزيون لنشاهد الأخبار ومسلسل المساء. فى الإجازات نشاهد فيلما أو مسرحية السهرة. لسنا من رواد الحفلات الغنائية، لكننا نستمع إلى الطرب الأصيل والغناء الجميل من أم كلثوم وعبد الوهاب ومحمد فوزى وعبد الحليم. تربينا على الصلاة وصوم رمضان وطاعة الأهل.. الخلاصة أننا أسرة طبيعية مثل ملايين الأسر. واستطرد الصديق فى أسى: ثم تأتى الرياح من جزيرة العرب حاملة معها أفكارا غريبة، فاجأنا الإخوة الذين استوردوها بأنها هى صحيح الدين الذى لم نكن نعرفه! فقالوا بحرمة الغناء والتمثيل والفن التشكيلى، وأفتوا بوجوب ارتداء النقاب وتغطية وجه المرأة، وأقاموا لأنفسهم جيتو داخل المجتمع أخذ يتسع ويتمدد، واستفاد فى تمدده من انتشار العشوائيات فضمها إلى زمامه حتى استولى على معظم مساحة الوطن. وأصبح هناك نوعان من المصريين، هما المصرى المصرى والمصرى السعودى، أو أهل مصر وأهل قندهار. وأضاف الصديق: المهم أن أسرتنا مثل معظم الأسر تشتتت ما بين من ظلوا على ولائهم للحياة العادية -وإن أضيفت إليها لمسة تدين ظاهرى تمثلت فى غطاء الرأس- وبين من رحلوا بفكرهم إلى أماكن عجيبة ورأوا فى جماعة طالبان المثال والقدوة، ليس فى جهاد الأعداء والذود عن الوطن، ولكن فى ضرورة هدم التماثيل والتنكر للعقل، والسمع والطاعة للجهلاء المأزومين نفسيا. وأكمل الصديق: لم أسمح للخلاف فى شكل الحياة أن يبعدنى عن أخى الأصغر الذى صار سلفيا له ذقن كثيفة مشعثة وبضعة زبيبات فى جبهته وزوجة وخمس بنات كلهن منتقبات. وفى الحقيقة أن بناته تشبهن الملائكة فى الجمال والأدب والتربية، غير أنهن معزولات عن العالم لا يعرفن منه غير الدروس الدينية ومعاهد إعداد الدعاة التى يرتدنها، حتى إننى سألته مازحا: إذا كنا كلنا سنكون دعاة فمن أين لنا بجمهور المستمعين؟ ومضى الصديق قائلا: أقنعت نفسى بأنه ليس من الضرورى أن يكون لنا جميعا نفس النمط فى الحياة.. المهم أن نحترم خيارات بعضنا بعضا ولا يدعو أحد لأحدٍ بالهداية!.. سارت الحياة سيرها الطبيعى والتقيت فى العمل شابا مهذبا متدينا ومثقفا ممن شاركوا فى الثورة، يقرأ فى الأدب والشعر وفى علوم الدين، وأخبرنى بانتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين.. بصراحة أحببت هذا الفتى لصدقه ونزاهته ورأيته يصلح عريسا لواحدة من بنات أخى، وكنت سعيدا بصراحة لأننى لم أتوقع يوما أن آتى بخطيب لواحدة منهن، حيث إن معارفى يشبهوننى بالضرورة ولا يشبهون أخى. المهم أخذت موعدا من أخى وذهبت إليه ومعى هذا الشاب المصلى المنتسب إلى أسرة طيبة والمنتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين. كانت الجلسة طيبة تبادلنا فيها الأحاديث الودودة ثم أخذت الشاب وانصرفت لأنها كانت مجرد جلسة تعارف قبل الكلام فى صميم الموضوع.. اتصلت بأخى بعد ذلك متوقعا أن يكون سعيدا بالشاب المهندس الخلوق المثقف، لكنه فاجأنى باعتراضه لأن الفتى لا يمانع فى سماع الموسيقى الراقية ولا يرى بأسا فى مشاهدة بعض برامج التليفزيون، فى حين أن ابنته تقاطع هذه الأشياء مقاطعة تامة وترى فيها رجسا من عمل الشيطان! وأردف الصديق: صعقتنى إجابته لأننى كنت أتصور أننى أتيت إليه بعريس من نفس فصيلتهم مستوفى المواصفات، فإذا به وكأنه يريد عريسا من «تورا بورا» أو كادرا بتنظيم القاعدة! لم أتصور أن الدنيا يمكن أن تفعل هذا بالناس.. أهذا أخى الذى تربيت معه وشربنا من نفس المنابع فى الصبا؟ ألا لعنة الله على من فرقنا وقسم عائلتنا إلى فسطاطين يطلب أحدهما للآخر الهداية!