إيه أجمل حاجة فى الدنيا؟ فوجئ كامل زهيرى بسؤال الوزير السودانى الذى كان معارضا ووصل إلى السلطة! أجاب زهيرى: النسوان يا سيادة الوزير. رد الوزير: لا. أضاف زهيرى بلهجته الساخرة: المنجة. قال الوزير أيضا: لا. وصمت قليلا قبل أن يجيب: «السُلطة» هى أجمل حاجة فى الدنيا يا كامل! لم يكن الراحل يمل من تكرار الحكاية. يحكيها كثيرا فى جلساته الخاصة، متأملا ماذا تفعل السلطة بعاشقيها، متتبعا مصائرهم. تماما كما كان يفعل ذلك عندما يتوقف فى أحد شوارع وسط البلد القديمة وقد اختفت تفاصيلها الجميلة أمام القبح الذى يحاصرنا! كان الراحل يمتلك قدرة على فرز البشر من وجوههم.. لأن هناك وجوها ذكية وأخرى غبية، ويستطيع من خلال ذلك أن يرصد قوانين الصعود والهبوط والتحولات للبشر. قفز زهيرى على ذهنى الأسبوع الماضى، بينما يبحث القذافى عن مخبأ، ويرقد مبارك تحت الإقامة الجبرية، هاربا من سجنه، وكذا الحال بالنسبة لزين العابدين بن على، وعلى عبد الله صالح! ماذا لو كان بيننا كامل زهيرى الآن.. ماذا سوف تكون نكته الجديدة عن الرئيس.. وماذا كان سيكتب على «تويتر» وهو البارع فى تكثيف العبارة الساخرة التى تنفتح على دلالات بلا نهاية؟ هل كان سيكتب رواية عن الأيام الأخيرة فى حياة هؤلاء الطغاة؟ ربما.. ولكن كان سيؤجلها لكتابة روايته الأكبر التى اختار عنوانها «المسافة». عندما لم يقتنع بأن التعليم فقط فى الكتب، قال لأبيه أريد أن أتعلم وسافر.. عام فى الهند وثلاثة فى مدينة الجن والملائكة «باريس»، حيث الفن على قفا من يشيل! فى فرنسا حاول أن يتعلم كل شىء، لغة، وأدب، وتاريخ، وفلسفة وفن، شاهد كل شىء مسرح وأوبرا ومعارض تشكيلية، دار فى المكتبات والمعارض والبارات والمتاحف والكنائس، شارك فى المظاهرات وحركات الاحتجاج، وصادق أدباء فلاسفة ومفكرين وزعماء ووزراء، ولكن ظل حبه لمصر. ثمة مسافة بينه وبين الرجل الفرنسى الذى يسير بجواره أو يبعد عنه بخطوتين، رغم قربهما ثمة مسافة كبيرة بينهما لا تزول، مهما سافر ثمة شىء بداخله يشده إلى وطنه. فالمسافة هى (محاولة التعرف على الآخر لا باعتباره جحيما أو عدوا... تستفيد منه وتفيده ولكن لا تذوب فيه)! وهو نفس المبدأ الذى كان يحكمه فى علاقته بالسلطة: مسافة تجعلك ترى اللوحة جيدا... واستقلال ضرورى فى الفن والتفكير والحكم على الأحداث، لأن الإغراق فى الحدث سيعميك من أن تراه جيدا. كان مبدؤه أن يتعامل مع الرؤساء والحكام بطريقة (حذّر ولا تخونش) ويستمع إليهم بنفس الاهتمام الذى يبديه حين يستمع إلى عسكرى مرور، كلاهما يملك أسرارا قد تفيده فى عمله الصحفى! لن يكتب زهيرى رواية الطغاة، لأنه لم يكتب روايته التى حلم بها.. سيحكيها، سيضيف إليها كثيرا من خياله. ولكن أوليس الواقع الذى نعيشه أكبر بكثير من الخيال؟ ربما لو أن مبدعا ممن تخصصوا فى الكتابة عن الديكتاتور كتب رواية عما جرى فى مصر فى عهد مبارك لاتهمه النقاد على الفور بالجنون. قصص الفساد وحكايات القصور المغلقة التى ظهرت بعد سقوط مبارك تتجاوز فعليا خيال أى مبدع. حياة مبارك نفسه دراما تشبه تقريبا الدراما الإغريقية. المخلوع نفسه لم يتوقع أن يصبح رئيسا.. كان حلمه فقط أن يصبح سفيرا، ولكنه وجد نفسه رئيسا بالصدفة. لم يكن يتوقع أن يبقى فى منصبه أكثر من دورتين، ولكنه بقى ثلاثين عاما.. وانتهى محبوسا فى قفص، دخله راقدا محجوبا عن عيون شعبه بعد أن ظل يحتال على الشعب.. ويختال عليه. أليست هذه الحكاية وحدها أكبر من أى رواية؟ سيقول زهيرى.. ويحكى بسخريته المعهودة أسرارا وحكايات.. وسيتوقف بين كل حكاية وأخرى: «تصدق.. والله مسخرة، دى بلد تموت من الضحك». قال: «تخيل جمال عبد الناصر بيعمل جورنال (الجمهورية) علشان يوصل لسمير رجب»! وسمير رجب هو إحدى الحكايات الكبرى فى عهد مبارك.. بل المساخر الكبرى.. وحكايته مع زهيرى شهيرة، وربما يعرفها كثيرون ممن يعملون فى الصحافة. عندما منحت نقابة الصحفيين جائزتها التقديرية السنوية لزهيرى.. غضب سمير رجب، لأن زهيرى بالنسبة له مجرد محرر صحفى يعمل تحت رئاسته فى «الجمهورية» ويكتب فقط عمودا يوميا. تساءل رجب: ليه النقابة تكرم محرر عندى ومتكرمنيش؟ قد يكون السؤال جائزا من رئيس تحرير لا يكتب سوى لقارئ واحد فقط ولا يعنيه سوى رأيه، ولكن الأغرب أن سمير رجب وجه اللوم لزهيرى لأنه تجرأ ووافق على تكريم النقابة له ولم يتنازل عن التكريم لرئيسه، وكان عقابه وقف نشر عموده اليومى! قلت: الحكاية كلها مسخرة! قال: مش باقولك بلد تموت من الضحك! بالفعل هى كذلك، وحكايات زهيرى عن مبارك وعصره.. وسابقه السادات لا تنتهى. إنها حكايات للعبر!