أحمد شمس الدين بالأمس القريب كان مجرد حدوث بعض التهديدات الأمنية فى إحدى الدول النفطية كفيلا بإشعال أسعار البترول العالمية، وليست من قبيل المبالغة الإشارة إلى أن أسعار البترول كانت تتأثّر صعودا وهبوطا بأخبار عن صحة ملوك وأمراء بعض الدول المصدّرة للنفط فى الشرق الأوسط. كان يبدو هذا منطقيا حيث إن المنطقة مثلت أكثر من 57٪ من إجمالى الاحتياطى العالمى على مدار العقود الثلاثة المنقضية، فأسعار السلع العالمية لا تتأثّر فقط بعوامل العرض والطلب، لكن أيضا بمعدل المخاطرة ومنها المخاطر السياسية. الآن ورغم ارتفاع معدل المخاطر الجيوسياسية فى المنطقة العربية بشكل غير مسبوق انخفضت أسعار البترول بأكثر من 30٪ من 110 دولارات للبرميل إلى ما دون ال77 دولارا فى الشهور القليلة الماضية، فماذا حدث؟ بالتأكيد، هناك عديد من الأسباب المنطقية، منها انخفاض الطلب العالمى عن التوقعات، مع استمرار حالة الركود الاقتصادى فى أوروبا وتباطؤ النمو فى الصين، وزيادة العرض فى الأسواق العالمية، بعد أن فاجأت ليبيا الجميع بزيادة إنتاجها بنحو 600 ألف برميل يوميا منذ أبريل الماضى وأيضا الارتفاع الكبير فى قيمة الدولار الأمريكى، وهو ما يتبعه عادة انخفاض مماثل فى قيمة السلع المتداولة عالميا بالدولار، لكن كل هذه العوامل لم يكن لها أن تسبّب هذا القدر الكبير من الانخفاض فى الأسعار إلا إذا تغيّر معامل المخاطرة فى أسواق الطاقة العالمية، وهو ما قد يبدو واقعا الآن. فظروف العرض والطلب الآن لا تبدو بعيدة عما حدث فى عام 2012 عندما ارتفع العرض عن الطلب فجأة، وهو ما أدى إلى انخفاض أسعار النفط من 110 إلى 95 تقريبا، ثم عادت الأسعار وارتفعت مجددا بعد أن خفّضت منظمة «أوبك» إنتاجها بنحو مليون برميل، وبالتالى لا يعنينى هنا انخفاض الأسعار تحديدا، لكن يعنينى فى المقام الأول المقدار الكبير لتراجع الأسعار رغم الوضع السياسى والأمنى الكارثى فى عديد من الدول المنتجة للنفط فى الشرق الوسط، فهل أصبح العالم أكثر اطمئنانا على مصادر الطاقة رغم ما تعانيه المنطقة من صراعات دموية واقتتال أهلى وطائفى؟ الحقيقة أن بترول الشرق الأوسط لم يعد بنفس الأهمية للغرب بعد أن نجحت الولاياتالمتحدة فى تطوير تكنولوجيا التكسير الهيدروليكى للنفط والغاز، ومن ثمّ إحداث طفرة إنتاجية هائلة، فارتفع إنتاجها من البترول (8.5 مليون برميل يوميا حاليا) بنسبة 70٪ عن عام 2008، وتخطط لإنتاج نحو 9.4 مليون برميل عام 2015، وهو يقترب مما تنتجه السعودية حاليا. وارتفع معدل الاكتفاء الذاتى من الطاقة فى أمريكا إلى نحو 85٪، مقارنةً بما دون 71٪ عام 2008، وأغلب الظن أنها ستستطيع تحقيق اكتفاء ذاتى تام من الطاقة خلال سنوات قليلة، هذا بالإضافة إلى أن الطاقات غير المستغلة حاليا فى العراق وليبيا وإيران قد تؤدى إلى زيادة كبيرة فى العرض يقابله تباطؤ هيكلى فى الطلب فى الصين وأوروبا ونمو فى استخدام الطاقة البديلة. وبناءً عليه، ورغم احتمالية ارتفاع الأسعار مجددا فى المدى القريب، فإنه ينبغى على المنطقة أن تستعد لعصر جديد تقل فيه أسعار النفط كثيرا عن مستواها فى العقد الأخير، والذى أسهم فى تحقيق طفرة اقتصادية لمعظم دول الخليج العربى، بعد أن استنزفتها حروب الخليج الأولى والثانية ماليا. بالنسبة إلى مصر، فالتأثير الإيجابى لانخفاض فاتورة استيراد المواد البترولية على المدى القصير يقابله تحديات على المدى البعيد، نظرا لأهمية تحويلات العاملين بالخليج العربى لميزان المدفوعات، بالإضافة إلى التأثير السلبى المحتمل على السياحة والاستثمارات العربية بشكل عام إذا ما انخفضت الأسعار بشكل كبير، ورغم الاحتياطات المالية الضخمة التى تراكمت لدى الدول الخليجية فى العقد الأخير فإن انخفاض أسعار البترول من ناحية وزيادة الإنفاق الحكومى بشكل غير مسبوق منذ اندلاع الربيع العربى من ناحية أخرى سيخفّضان بلا شك من سقف قدرة هذه الدول على رفع معدل الإنفاق عن المستوى الحالى، ناهيك بقدرتها على استمرار مستوى المعونات والمنح الاقتصادية للدول الأخرى. جدير بالذكر أن أسعار البترول الحالية أقل من المستوى المطلوب لتحقيق الإنفاق المخطط له فى كل دول الخليج (باستثناء الكويت) وإيران وروسيا. أما على المستوى السياسى فأظن أن تكلفة الهيمنة المطلقة على الشرق الأوسط تبدو الآن أعلى من المكاسب المتوقعة بحسابات صانع القرار الأمريكى، وبالتالى فإن التراجع الاختيارى لدور الولاياتالمتحدة فى المنطقة زاد من التحديات أمام الأنظمة العربية التى طالما رأت فى الدور الأمريكى ضمانا للاستقرار، وهناك أزمتان رئيسيتان فى الأفق، الأولى أنه وفى الوقت الذى ازداد فيه خطر الإرهاب فى المنطقة بصورة غير مسبوقة فإنه لا توجد هناك ثمّة مصلحة مباشرة للولايات المتحدة فى مواجهة الإسلاميين، حتى المتشددين منهم، والثانية فى ظنى تكمن فى أن التقارب الأمريكى الإيرانى يزداد قوة بعد أن امتلكت إيران عديدا من الأوراق المؤثرة، خصوصا فى العراق وسوريا ومؤخرا فى اليمن، ومن ثمّ فإن اتفاقا يشمل تطبيع العلاقات ورفع العقوبات الاقتصادية على إيران أصبح أمرا وشيكا، ويمثّل هذا تحديا كبيرا للتحالف المصرى-الخليجى الذى أخذ بُعدا استراتيجيا واقتصاديا جديدا بعد 30 يونيو، فهل تستعد مصر لكل الاحتمالات؟ فى رأيى تبدو جميع التحالفات هشة وقصيرة المدى، إلا أن تتحالف الأنظمة مع شعوبها، فمصر فى حاجة إلى شبابها.