أمل رمسيس منذ عدة أيام لم تفارق مخيّلتى رسم شهير للفنانة السريالية المكسيكية، فريدا كاهلو، تُصوّر فيه امرأة راقدة على سرير مستشفى، يخرج الدم من مهبلها، وتتعلق فى الهواء من بطنها المنفوخ بعض الحبال التى تنتهى بأشياء مختلفة ومتباينة، منها طفل ووردة وقوقعة. يعرف المتخصصون وغير المتخصصين فى الفن أن إعاقة فريدا كاهلو الجسدية قد أثَّرت على قدرتها على إنجاب الأطفال. إنهما عنصران، الأول الإعاقة، والثانى عدم القدرة على الإنجاب، يظهران مرارا وتكرارا فى معظم أعمالها الفنية وفى كتاباتها، فلم يتوقَّف خيالها عن منح التصورات السريالية لجسدها المعاق، وللطفل الذى لم ترزق به. هذه الخيالات والإبداعات هى التى كانت سببا للاحتفاء بفريدا كاهلو ليس فقط باعتبارها رسّامة سريالية، وإنما كذلك باعتبارها امرأة تكسر النمط والتابو الذى يفرضه المجتمع على جسد المرأة، فهى التى عبّرت عن مخاوفها وهواجسها بحرية شديدة، وهى التى اعتبرت جسدها مادة فنية تستطيع أن تشكِّلها بمقدار ما تريد، ودون أن تتخوف من أى ردود أفعال. إن أهمية فريدا كاهلو وغيرها من الفنانات والكاتبات والسينمائيات أنهن طرحن نموذجا للنساء القادرات على الاختيار الحر فى ما يتعلق بأجسادهن وكيانهن وأفكارهن، فالجسد لم يكن فى أى لحظة مصدر خزى وعار واستياء، بالعكس فقدرات هذا الجسد سمحت لهن بتعدد الخيارات، سواء أكانت باتجاه الأمومة أو باتجاه الفن أو الكتابة أو العمل أو صناعة الأفلام. والآن لنتخيَّل هذا العمل الفنى لفريدا كاهلو معروضا اليوم فى إحدى قاعات الفن التشكيلى المصرية: امرأة عارية- دم يخرج من المهبل- جنين معلَّق فى الهواء مربوط بحبل من رحم الأم من ناحية- وردة معلقة بحبل من ناحية أخرى. كم عدد الأشخاص الذين لن يفهموا المقصود لأول وهلة لكنهم سيتوقفون للحظات للتفكير؟ كم شخصا سوف يعتبر هذا محض جنون ويذهب إلى مشاهدة عمل آخر؟ كم شخصا سوف يشعر بالغثيان وبالقرف والاستياء من هذا المظهر لتصويره امرأة عارية بهذا الشكل؟ وكم شخصا سوف يعتبر هذا إهانة لجسد المرأة وتكريسا لدورها الإنجابى؟ وأخيرا.. كم شخصا سوف يطالب بمنع هذا الرسم واستبداله، أيا كانت أسبابه فى ذلك؟ لا داعى لاستخدام الخيال كثيرا لتوقّع الإجابة، فنحن جميعا نعرفها مسبقا، ونعرف أن عملا كهذا يمكن أن يُثير فضيحة فنية ونسوية على كل المستويات، ولن يشفع له تاريخ الرسامة ولا أفكارها ولا حتى قيمة العمل الفنية، فليس هذا مربط الفرس. إذن ما مربط الفرس؟ ولماذا ثارت هذه المقاربة فى ذهنى فى مجال الضجة التى أُثيرت عن «تريلر» مهرجان سينما المرأة؟ فى الحقيقة لا مجال هنا للمقارنة الفنية بين هذا العمل الرائع لفريدا كاهلو و«تريلر» بسيط أثار حفيظة بعض الناشطات فى مجال عمل النساء، بنفس القدر الذى أثاره عند كثير من الرجال الذين لا يرون فى النساء إلا جسدا، لا يمكن أن يخرج منه إلا أطفال، رغم ذلك فإن المقاربة والمقارنة صحيحة تماما فى ما يتعلق بهؤلاء الذين يعتبرون تصوير أجزاء معينة من جسد المرأة من التابوهات التى تستدعى التحريم والمنع، سواء أكان ذلك على خلفية دينية، أو حتى على خلفية أفكار تقدمية، فالنتيجة فى النهاية واحدة: لا تقتربوا من جسد النساء، وإذا أردتم فلتتحدَّثوا عن أعضائها غير المثيرة للجدل. مع الأسف أصبحت هواجسنا الجنسية هى أول ما يظهر للوجود عند الحديث عن المرأة، لدرجة أن فعل الولادة يمكن أن يعتبر تكريسا لدونيتها، فعل الولادة أصبح يثير حالة هيستيرية تمنعنا أن نتوقف ولو للحظة للتفكير فى ما يمكن أن يكون تفسيرا ثانيا ل«تريلر» يصدره مهرجان هدفه الوحيد -كما نعرف جميعا- هو تقديم أفضل ما أبدعته النساء سينمائيا، وذلك باستدعاء أقوى ما فيهن من خلال كسر الصور النمطية التى تكرّس أحادية دورهن فى المجتمع. قد لا تنتهى النقاشات عن علاقة المرأة بجسدها، وحقها فى الاختيار بين أن تكون أُمّا أو أن تكون مخرجة سينمائية أو موظفة أو كاتبة... إلخ.قد لا تنتهى النقاشات عن المفهوم بالمجاز فى الصورة، عن كيفية كسر النمط ودور الصدمة فى ذلك، عن تأثير الثقافة فى فهم الصورة وتفسير النص. قد لا تنتهى النقاشات عن الشكل الفنى الذى يتناول مثل تلك القضايا، لكن الأخطر بلا شك أن تكون بيانات الشجب هى طريقتنا الوحيدة للتعبير عن آرائنا فى ما بيننا، الأخطر أن يكون المنع والوصاية والإرهاب الفكرى والمطالبة بسحب العمل طريقتنا فى فرض هذه الآراء، أن نستخدم أدوات السلطة التى نعارضها فى معاركنا مع مَن يفترض أنهم يعملون على نفس الهدف. الأخطر بالتأكيد أن نعتبر صوتنا «نحن» هو صوت كل نساء العالم، فنغذّى حملات عشوائية وحالة هيستيريا جماعية نعرف جميعا أن لا مجال فيها للتفكير ولا للتحليل، لأنها فقط تستدعى أسوأ ما فينا من غرائز. إن أخطر ما فى الأمر هو أن نكتشف أن فاشية السلطة وفاشية القوى الرجعية قد تغلغلتا داخل عقولنا نحن أيضا، فأصبحنا نموذجا مصغّرا لمثل تلك المواقف والسياسات الفاشية التى ندّعى محاربتها. والآن هل يمكن الحديث عن حركة ديمقراطية قد تجمعها الأهداف الواحدة، لكنها قد تختلف فى الأفكار والآليات، الإجابة بالتأكيد «نعم»، فقد أثبت كثير من الزميلات وكثير من الزملاء على مدار الأيام الماضية أنهم قادرون على فرض النقاش كطريقة وحيدة للحوار فى مواجهة كل حملات الإرهاب الفكرى. لقد أثبتوا أن روح التضامن هى فعلا ما يمكن أن يجمعنا رغم اختلافاتنا ورغم عدم انتمائنا إلى نفس «الشلّة»، وذلك فى معرض الرد على جماعات ضغط استبدلت دورها بالضغط على الناس بدلا من الضغط على السلطة ومؤسساتها. وأخيرا.. عزيزاتى الأمهات، أتمنى أن لا تغضبنَ منى إذا قلت إن آلام مخاض مهرجان للمرأة فى مجتمعنا الآن هى أصعب بكثير من ولادة طفل، ولكننا سننساها بالتأكيد بمجرد أن يخرج إلى الوجود.