فى خبر صغير، نشرته جريدة «الأخبار» الصادرة فى 30 نوفمبر 1962، جاء أن الناقد والدكتور وأستاذ الأدب المقارن محمد غنيمى هلال سوف يصدر له كتاب تحت عنوان «المدخل إلى النقد الأدبى»، وأشار الخبر إلى أن الكتاب يعد أكبر موسوعة فى النقد الأدبى حتى ذلك الحين، وسكت الخبر عند ذلك التعريف، حيث إن غنيمى هلال كان اسمه يملأ السمع والبصر والعقول فى ذلك الوقت. ولو تأملنا أسماء النقاد الأكاديميين وغير الأكاديميين فى ذلك الوقت، سندرك أن أى ناقد برز اسمه، وترك أثرًا فى القارئ، حتمًا سيكون هذا الناقد قد بذل جهدًا مضنيًا للوصول إلى مكانة أن يعرف أولا، ثم يشتهر اسمه، ثم يترك أثرًا طيبًا بين القرّاء. إذا كانت هذه المرحلة تضج بأسماء كبيرة، مثل الدكتور محمد مندور والدكتور شكرى عياد والدكتور عبد القادر القط والدكتور زكى نجيب محمود والدكتور على الراعى والدكتور عبد الرحمن بدوى، وطبعًا الدكتور طه حسين، وهذا بالإضافة إلى كتّاب ومفكرين ومبدعين مارسوا الكتابة النقدية مثل يحيى حقى وأحمد عباس صالح وصلاح عبد الصبور ورجاء النقاش وعباس العقاد وغيرهم. وكانت هناك مجلات قادرة على محاورة الواقع، وكانت الصحف السيّارة ذاتها مثل «الأخبار» و«الأهرام» و«المساء» و«الجمهورية» و«الشعب» و«القاهرة»، والمجلات الثقافية مثل «المجلة» و«الرسالة» و«الثقافة» و«الأدب» وغيرها من مطبوعات، تكتب عن كل الظواهر الثقافية المصرية والعربية والعالمية. هنا كان تميز الدكتور محمد غنيمى هلال الذى لم يعش أكثر من اثنين وخمسين عامًا، إذ ولد فى عام 1916 ورحل عام 1968 فى أعقاب مرض كبير، ولكنه ترك تراثًا هائلًا وحافلًا بالعلم والدرس النقدى العظيم، رغم أنه لم ينهل -كما يقول النقاد ومتابعو سيرته العلمية إلا من المعين الفكرى والنقدى والثقافى الفرنسى، وتأثر بالثقافة الفرنسية أيّما تأثر، حيث إنه درس هناك، وهو الفلاح الذى ولد فى محافظة الشرقية، والتحق بالمعهد الدينى التابع للأزهر الشريف فى مدينة الزقازيق، وفى عام 1937 التحق بكلية دار العلوم، وحصل على شهادتها عام 1941، وعمل مدرسًا للغة العربية أربعة أعوام، حتى حدث أنْ سافر فى ديسمبر 1945 إلى فرنسا فى أول بعثة مصرية إلى أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية -كما يسرد الطيب عبد الرازق النقر- وظل يدرس فى باريس لمدة سبع سنوات متواصلة، وحصل على الليسانس من «السوربون»، ثم على درجة الدكتوراه فى مجال الأدب المقارن. ودون أن نستعرض سيرته الوظيفية، فهذه السيرة من الممكن أن تكون متحققة لكثيرين غيره، ولكن التميّز الذى انفرد به غنيمى هلال هو الجدّية المتناهية فى التحصيل والاستزادة العلمية طوال ممارسته النقدية على المستوى الأكاديمى والصحفى فى الوقت ذاته، واستطاع أن يزوّد المكتبة العربية بقدر هائل من الكتب النقدية التى لا غنى عنها لأى باحث ومثقف وناقد. وإذا كان لكل ناقد تميزٌ ما فى مادة نقديةٍ ما، فإن التميز الأول لغنيمى هلال يكمن فى دراساته المعمّقة فى الأدب المقارن، وهو يعتبر أن مادة الأدب المقارن مجال خصب وحيوى وفعّال فى معرفة النصوص الأدبية حق المعرفة، وهو لا يستنكر فكرة أن يكون المبدع متأثرًا بنصٍّ ما أو ثقافة أجنبيةٍ ما، ولكنه يؤكد فكرة التلاقح التى تحدث بين الثقافات عمومًا، ولا توجد هذه القصة أو القصيدة أو المسرحية التى تولد ولادة شيطانية، دون سلف لها فى الثقافة التى انبثقت عنها، أو فى الثقافات الأخرى. ويتعرض هلال للكتّاب الذين ينتمون إلى جنسيات مختلفة، ولكنهم يكتبون بلغات غير لغاتهم، فهل تنتسب آدابهم إلى الأدب الذى كتبت به اللغة، أم أنه ينسب إلى أدب البلاد التى ينحدر منها هذا الأديب، وتنطلق قضاياه ومشاعره وأفكاره من البيئة التى تكوّنت فيها شخصيته الإنسانية والاجتماعية وكذلك الفكرية؟ وهذا سؤال أفاض فى إجابته غنيمى هلال، إذ إن هناك طائفة كبيرة من المبدعين ينتمون إلى البلاد العربية، ولكنهم يكتبون بالفرنسية أو الإنجليزية، مثل كاتب ياسين ومالك حداد ومولود فرعون ومولود معمرى ورشيد بوجدرة ومحمد ديب الجزائريين، وهناك مغاربة كثيرون كتبوا أدبًا رفيعًا باللغة الفرنسية، وحصلوا على جوائز مرموقة فى الأدب الفرنسى، ولكنهم ينطلقون من مشاعر وقضايا وأفكار عربية محضة، هنا كان تميز غنيمى هلال فى معالجة هذه القضايا والأفكار الشائكة بعمق واقتدار. وعدا هذه الأسئلة والإجابات العميقة والموسعة فى مجال الأدب المقارن، فقد شارك غنيمى هلال فى النقد المسرحى نظريا وتطبيقيا، وله كتاب مهم فى هذا المجال، وهو «فى النقد المسرحى»، يجرى تحليلات وافية لعدد من المسرحيات، ويضع نقاطًا فوق حروف مبهمة فى هذه المسرحيات، فكتب عن مصادر الشاعر أحمد شوقى فى مسرحيته «مصرع كليوباترا»، ويعالج وجود أزمة الضمير العالمى فى مسرح جان بول سارتر، كذلك يعالج فن المسرح بين الشعر القديم والشعر الجديد، وعقد مقارنات بين مسرح أحمد شوقى وعبد الرحمن الشرقاوى، ثم يعرّج على اللغة التى يكتب بها المسرح، بين العامية والفصحى، وغيرها من دراسات ذات أهمية بالغة فى الكتاب، فضلاً عن التحليلات والمقارنات العميقة التى يجريها فى الكتاب، إلا أن كتابات هلال لا بد أن تنطوى على معلومات مثيرة، فهو يذكر مثلًا فى دراسته عن مسرحية «مصرع كليوباترا»، كل المسرحيات التى كتبت عن كليوباترا، فيذكر أن خمس عشرة مسرحية فى اللغة الفرنسية، وست مسرحيات فى اللغة الإنجليزية، وأربعًا فى اللغة الإيطالية، ثم ينسب إلى شوقى الفضل فى أنه كتب باكورة النصوص عن كليوباترا، على اعتبار أنها شخصية تاريخية ذات مجالات خصبة للإلهام. وهناك كتاب آخر فى غاية الأهمية، وهو «الحياة العاطفية بين العذرية والصوفية»، وهو تطبيق عملى وعبقرى لما درسه وتعلّمه وأبدع فيه، أقصد الأدب المقارن، فيقيم مقارنة بين الأدبين العربى والفارسى، مستعرضًا الحضارتين أو الثقافتين بكل شمول وتوسع، ويصل إلى إجابات شبه حاسمة فى الأثر الذى تركته كل ثقافة على الأخرى. هذه ومضات سريعة عن ناقد عظيم، أهملته الأجيال التالية، معرفة ونقدًا ودرسًا وتدريسًا، وأظن أننا فى حاجة إلى إعادة نشر تراثه الأهم، حتى نستطيع التعرف على أحد روادنا فى تاريخ النقد الأدبى المصرى والعربى والإنسانى.