فى العام 1938 كتب طه حسين فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» يتساءل عن جوهر الثقافة المصرية، من حيث هى نَسَق عقلى فى فهم ذاتها وفى فهم العالم وتصوره. ورد أهمية هذا التساؤل إلى أن البحث عن استعادة مسار نهضة مصر وسبل تقدمها لا يمكن أن ينفصل عما تأسس عليه عقلها وإدراكها لذاتها وللعالم، فى ماضيها البعيد وحاضرها القريب. وطرح طه حسين تساؤله قائلًا: «هل العقل المصرى شرقى التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء؟ أم هل هو غربى التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء؟! وبعبارة موجزة جلية: أيهما أيسر على العقل المصرى: أن يفهم الرجل الصينى أو اليابانى؟ أو أن يفهم الرجل الفرنسى أو الإنجليزى؟». ويجيب عميد الأدب العربى قائلًا: «العقل المصرى منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشىء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر المتوسط». وليس مستغرَبًا أن تكون تلك هى الخلاصة التى ينتهى إليها طه حسين، الذى يُعد هو فى الأساس أحد أبرز ما أنتجته عملية تحديث مصرية متسارعة استندت بشكل رئيسى إلى الانفتاح على أوروبا وعالم البحر المتوسط فى محاولة لجلب النظم الإدارية والسياسية والاقتصادية والمعرفية التى قادت دول تلك القارة على مدى مئات السنين إلى تبوُّء صدارة حركة التطور الإنسانى وامتلاك مقومات القوة الحديثة، وهى النظم ذاتها التى لا تزال تقود غيرَ أمم أوروبا من الأمم التى التحقت بمسار التطور والنهضة وحيازة عناصر القوة فى عالم اليوم. من دون الدخول فى كثير من الجدل الأنثروبولوجى أو الثقافى حول أصل المجتمع المصرى أو مكوناته المعرفية، فإن الجلى من استقراء تاريخ مصر عبر مراحله كافة أن عصور قوة الأمة المصرية شهدت جميعها انفتاحها على مختلف الثقافات والأمم التى تقع فى دوائر متطلبات تأمين الدولة المصرية أو احتياجات نموها. أما الانعزال على الذات وعلى ثقافة محددة بعينها فلم يكونا إلا صنوين لمراحل الضعف وانحسار القوة. ومع كون العلاقة بين بناء القوة المصرية والانفتاح على الآخر على تنوعه هى علاقة جدلية فى التأثير والتأثر، فإن هذا الانفتاح يبقى هو الركيزة الأولى لبناء مثل هذه القوة، وتبقى لحظات كسر العزلة الثقافية التى يفرضها الضعف وما يصحبه غالبًا من استبداد على الأمة المصرية هى لحظات البداية الحقيقية فى دورات نهضتها. ومن الجلىّ من استقراء تاريخ مصر الحديث أن تجربة تحديث متسارعة قوامها الانفتاح على أوروبا انطلقت فى مطلع القرن التاسع عشر بمبادرة من الدولة المصرية التى كانت تشهد آنذاك محاولة تأسيس جديدة وخدمة لمتطلبات نموها. معضلة تجربة التحديث المصرية أنها خلافًا لنشأة التحديث فى أوروبا نتيجة تطور تلقائى مجتمعى ومعرفى استبق تحديث الدولة ذاتها، ظلت قاصرة بشكل رئيسى على الدولة ومؤسساتها والطبقات المتحالفة معها. وبينما ظلت المناطق الأكثر تهميشًا وهى الغالبة فى مصر بعيدة عن تجربة التحديث بسبب ضعف الارتباط بمراكز التحديث الحضرية فى البلاد، فإن لحظة امتداد الدولة إلى تلك المناطق المهمشة فى الستينيات من القرن العشرين كانت هى ذاتها لحظة ابتعاد الدولة نسبيا عن مصادر التحديث ومراكزه فى الغرب بسبب الصراع مع تلك المراكز حول استقلال الدولة المصرية. ترتب على تلك المفارقة التاريخية، تراجع تجربة التحديث المصرية، سواء ما يتعلق منها بإرساء العقلانية والفردية كمنهج للتفكير والبناء الاجتماعى، أو التصنيع والإنتاج العلمى كمقوم لبناء الاقتصاد. وعادت للبروز مرة أخرى قوى التقليد التى كانت لا تزال راسخة فى العقل المصرى، خصوصًا فى المناطق المهمشة، وتعزز تراجع التحديث مع تعاظم الارتباط بالثقافة التقليدية فى محيط مصر العربى. وتقف الدولة المصرية حاليا فى لحظة فارقة وغير مسبوقة يتعين عليها فيه إعادة بناء ذاتها على أسس مختلفة تمامًا عمّا أرسى نشأتها واستمراريتها، خصوصًا ما يتعلق منها بالارتباط النهرى، ويفرض عليها ذلك مرة أخرى تحدى الانفتاح واستعادة مسار التحديث الذى تجاوزت أدواته وآفاقه المادية والمعرفية بمراحل ما توقفت مصر عن ملاحقته قبل عقود عدة. وإذا كان يتعين على الدولة المصرية اليوم الانفتاح على مختلف مراكز القوة العالمية التى أضحت أكثر انتشارًا مما عرفته أى حقبة فى تاريخ العالم، فإن سؤال التحديث الثقافى والمعرفى اللازم لمثل هذا الانفتاح يردنا إلى سؤال انتماء مصر الثقافى الذى طرحه طه حسين قبل ستة وستين عامًا: «أىُّ الثقافتين الغربية أم الشرقية الأقدر على تعزيز العقلانية فى مصر ورفدها معرفيا وثقافيا لإرساء مقومات التحديث والالتحاق بحاضره الذى تخلفنا عنه كثيرًا؟». وفى الواقع، فإن ما قرره طه حسين فى شأن أولوية الانتماء المتوسطى لمصر ثقافيا لا يزال -إذا ما قورن بأىٍّ من الفضاءات الثقافية التى يمكن لمصر الانفتاح عليها- هو الأقدر على أداء تلك الوظائف جميعها. وإذا كانت الدولة المصرية تجد من عوامل التقارب مع هذا الفضاء كثيرًا مما يدفعها لمحاولة إعادة تأسيس علاقتها معه مجددًا، سواء لمواجهة إرهاب يتهدد الطرفين برًّا وبحرًا، أو اقتصاد متهاوٍ تُعد الشراكة مع أوروبا السبيل الأقرب للنهوض به، فإن هذا التقارب يجب أن يتجاوز تلك المرة حدود احتياجات الدول ومصالحها والسياسة وتعقيداتها ليشمل المجتمع المصرى بأسره ويمتد حرًّا ليؤسس علاقات راسخة بين الشعب المصرى وشعوب المتوسط وأوروبا من خلفه، تشمل فضاءات الثقافة والفن والعلم والتكنولوجيا. هذا هو التحدى الذى أعاق، طوال قرنين من الزمان، ما رجاه طه حسين يومًا لمستقبل مصر وثقافتها.