أحيانًا تستهوينى الشقاوة، فأخرج عن النص، كما حدث أول من أمس، كنت فى كَتْب كتاب أو فى «عقد قران» كما يقول أهل الفصحى، والجلسة هيصة وزيطة ومزيكا وزغاريد، وفجأة سألت المأذون: هو صحيح لماذا الزواج على مذهب أبى حنيفة النعمان وليس أى مذهب آخر؟ كان سؤالًا استفهاميا بحتًا، وخطر فى بالى لحظتها، والشقاوة هنا، أننى لم أكتم فضولى واندفعت بتلقائية مستفهمًا، فرد المأذون وكان شابًّا يافعًا، ربما أقل من الثلاثين عامًا، ملامحه مريحة، أقرب إلى بساطة الريفيين من فهلوة أهل المدينة، فقال: إنه أخف وألطف بعباد الله. أثارت الإجابة كل زعابيب الريح فى عقلى، فسألته: كيف؟! قال: مثلًا: هو يكتفى بأى شاهدين لصحة العقد، أما الشافعى مثلا فهو يشترط شاهدَى عدل. قلت: أىُّ شاهد ذو أهلية ولم يرتكب جريمة مخلة بالشرف هو شاهد عدل! قال: لا، فيه مهن لا يتمتع صاحبها بذلك، مثلا شهادة الموسيقِى لا تجوز فهو فى عُرف الشرع فاسق! بتلقائية رددت: يا خبر أسود، هل ما تقوله صحيحًا؟ ومن أى نص قرآنى أو حديث نبوى صحيح استنبطنا هذا الوصف « للموسيقِى»؟! قال: من فقه أهل الشريعة. قلت: يعنى سيد درويش وعبد الوهاب والسنباطى لا يصلحون أن يكونوا شهودًا على عقد قران؟! لم يرد وسكتَ، وحتى لا يتوسع النقاش وتتسع دائرة الممنوعين من الشهادة العدول بالشعراء والكُتاب والفنانين وندخل فى متاهات سحيقة قبل أن يدخل العروسان الدنيا، لملمت شقاوتى وحبستها خلف جدران سميكة. لكن هذه الجدران لم تمنع عقلى من التفكير: ألسنا فى حاجة إلى إصلاحٍ فى فهمنا للإسلام؟! لا أقصد الخطاب الدينى كما نردد كالببغاوات، وإنما أقصد المراجعة والفحص والدراسة وإعمال العقل والشرح والتفسير. هل سنظل أسرى تفسيرات وشروح قديمة، جرت فى زمن غير زماننا ووفق معارف ضئيلة للغاية إذا ما قورنت بمعارفنا الحالية، وبعقول لم تتوافر لها مصادر معرفية وأوجه للحياة والتصرفات كما تتوافر لنا؟ قبل أيام قتل شابان أستاذًا لعلم الاجتماع فى جامعة بنجلاديش بالسواطير، لمجرد أنه عارض ارتداء طالباته النقاب تفاديًا للغش فى الامتحانات، وتباهت جماعة سمّت نفسها «أنصار الإسلام بنجلاديش2» بالجريمة، وأرسلت تحذيرًا فى صفحتها على الفيسبوك: «فليحذر كل المرتدِّين من أعداء الإسلام والملحدين»، وكان الأستاذ قد كتب سلسلة من المقالات عن انتمائه إلى حركة «البول» الصوفية المشهورة بموسيقاها ونمط حياتها الخاص، وأسهم فى حملة عالمية جعلت منظمة اليونسكو تُدرِج موسيقى «البولز» فى لائحة التراث العالمى الروحى، وفى نيجيريا، فجّر انتحارى نفسه فى ملعب كرة طائرة ممتلئ بالجماهير، ليسقط أكثر من 150 ضحية فى ثوان، لأن اللعب يلهى الناس عن عبادة الله. باختصار لدينا ثلاث وقائع مختلفة فى ثلاث دول تفصلها بحار ومحيطات وجبال ولغات وثقافات، لكن العقل الذى حكم الوقائع الثلاث يكاد يكون متماثلًا، عقل يحاصر نفسه فى حيز ضيق ويخاصم عصره مخاصمة عنيفة ودموية، وإذا لم يحدث تصالح بين العقل والعصر على جسر من الفهم الصحيح للدين بعيدًا عن تجاره وسلاطينه، فستظل السحابات السوداء فوق رؤوسنا! نعم نحن فى حاجة إلى ثورة اليوم (28 نوفمبر)، ثورة فى العقل وفى الفكر الإسلامى، وليس بالرايات السوداء!