أبدأ بأن اليوم سيمر إن شاء الله بسلام، ولن تستطبع عصابات القتلة أن تعربد وتقترف من الجرائم أكثر مما تعودنا.. وأقبل منك يا عزيزى أن ترفع على العبد لله دعوى تعويض إذا مرت ساعات اليوم بشىء مختلف. وأمس عاندنى القلم وركب دماغ حضرته وأصر على أن يكتب ويرسم صورًا ناعمة وكلامًا رقيقًا يحرض على البهجة لا على الغضب، وإزاء هذا الموقف لم أجد حيلة ولا مهربًا غير أن أجاريه وأغرف من تراث الشعر الجميل، لكنى اشترطت عليه البدء بما له علاقة بقطيع النباحين (من النباح) المنافقين الكذابين، وقد طاوعنى القلم (أو بالأحرى، «كيبورد» الكمبيوتر) فعلًا فذهبت أغرف من بحور الشعر أقداحًا ونتفًا، مما قيل فى هجاء صنف «الكذابين»، هؤلاء الذين يغرقوننا هذه الأيام بوسخهم وشين أخلاقهم وسوء أفعالهم، وقد قال فيهم الشاعر: (لا يكذب المرء إلا مهانة/ أو من فعلة السوء أو قلة الأدب لَبعضُ جيفة كلب خير رائحة/ من كذبة المرء فى جد وفى لعب). وقال أيضًا: (كذبت ومن يكذب فإن جزاءه/ إذا أتى بالصدق أن لا يُصدّقا وإذا عرف الكذاب بالكذب لم يزل/ لدى الناس كذابًا وإن صدقا ومن آفة الكذاب نسيان كذبه/ وتلقاه ذا فقه إذا كان حاذقا كم حسيب كريم كان ذا شرف/ قد شانه الكذب وسط الحى إذ عمدا وآخر كان صعلوكا فشرّفه/ صدق الحديث وقول جانب الفَنَدَا فصار هذا شريفًا فوق صاحبه/ وصار هذا وضيعًا تحته أبدا). (من كتاب «روضة العقلاء ونزهة الفضلاء»). وأترك قبح الكذب والكذابين وأذهب إلى شعر الجمال وأنهل من إبداع أميره أحمد شوقى كلامًا رائعًا عن الربيع بينما نحن نستقبل طلائع برد وزمهرير الشتاء، وقد أنشد أمير القوافى: (آذار أقبل قم بنا يا صاح/ حَىَّ الربيع حديقة الأرواح واجمع ندَامَى الظُّرفِ تحت لوائِه/ وانشر بسَاحتِهِ بساط الرَّاح صَفوٌ أتيح فخُذ لنفسك قسطها/ فالصفو ليس على المدى بمتاح واجلس بضاحكة الرياضِ مُصفقا/ لتجاوب الأوتارِ والأقداح). ثم يمضى إلى أن يقول: (ملك النبات فكل أرض داره/ تلقاه بالأعراس والأفراح لَبِست لِمَقدمِه الخمائل وَشْيَها/ ومَرِحنَ فى كَتِفٍ له وجناح الورد فى سُرَرِ الغصون مُفَتحُ/ متقابل يُثنى على الفَتَّاح ضَاحى المواكب فى الرياض مُمَيز/ دون الزهور بشوكة وسلاح مرَّ النسيم بصفحتيه مُقَبَّلاً/ مَرَّ الشفاه على خدود مِلاح هَتَكَ الردى من حسنه وبهائه/ بالليل ما نسجت يد الِإصبَاح). أما «أبو تمام» فكان قد غنى وأنشد للربيع شعرًا رائعًا منه: (نَزَلت مُقدمة المصيف (الصيف) حميدةً/ ويدُ الشتاء جديدة لا تكفرُ لولا الذى غرس الشتاء بكفه/ لاقى المصيف هَشَائِما لا تثمرُ مَطر يذوب الصحو منه وبَعَده/ مطر يكاد من الغَضَارة يمطرُ غَثَيان فالأنواءُ غيث ظاهر/ لك وجههُ والصحوُ غَيث مضمرُ). ومن حظ «ابن الرومى» أنه لم يعش فى زماننا، ولم يعرف خلق الله فى أيامه أشياء من نوع السادة الدكاترة المستشارين الوزراء المحافظين الذين يكرهون الخضرة ويعادون الشجر، وكلما مر واحد منهم ببستان تركه خرابة، لهذا كان بوسع هذا الرجل أن يكتب مطمئنًا: (ضحك الربيع إلى بكى الديم/ وغدا يسوى النبتَ بالقممِ من بين أخضرَ لابسٍ كمما/ خضرًا وأزهر غير ذى كُمَم أشقائق النُّعمان بين رُبَى/ نُعمان أنتِ محاسنُ النَعم). وما دمنا وصلنا إلى «محاسن النّعم»، من شقائق النعمان إلى القمم الخضراء والزهور التى بغير كُمَم، فلا أجمل ولا أروع من ختام تزيّنه كلمات شاعر تركيا العظيم «ناظم حكمت» التى يقول فيها: (أجمل الزهور تلك التى لم نرها بعد وأجمل البحار تلك التى لم نزرها بعد وأجمل الأطفال هؤلاء الذين لم يكبروا بعد وأجمل القصائد لم أكتبها بعد وأجمل الكلمات التى وددت أن أقولها لكى لم أقلها بعد وأجمل أيامنا لم نعشها بعد).