تنبع معاناة الإنسان وتكثر عذاباته من تلك الفجوة الدائمة التى لا تضيق أبدًا بين ما يملكه فعلًا وما يريده أملًا، بين ما يكونه واقعًا وما يحلم به متخيلًا. يحلم الفقير بالثراء، فإذا ما ازداد ثراءً ازداد تطلعًا إلى ما هو أكثر.. يحلم الإنسان العادى بالنجاح، فإذا ما حقق نجاحًا ازداد توقًا إلى نجاح أكبر.. هذه المعاناة هى ما راوحت الأديان والفلسفات فى التعاطى معها بين طريقين أساسيين: الطريق الأول هو الطموح، حيث يبذل الإنسان جهدًا كبيرًا فى تعظيم ما يملكه، لكى يقارب ما يريد، وهنا ينفتح الباب على ما يشبه الألم الأبدى، لأن ما يريده ينمو دائمًا، وجهده الإنسانى محدود بطبيعته، فإذا كان الإنسان فقيرًا، لكنه يرغب فى الثروة، فإنه ينبغى أن يجتهد فى جمعها. وإذا كان فاشلا يطمح إلى النجاح يكون عليه بذل الجهد المضنى تحقيقًا لحلمه، وإزاء ذلك يستهلك الإنسان نفسه فى الأمل والألم معا. أما الطريق الثانى فهو الرضا، حيث يكيّف الإنسان رغباته مع ما يملكه بالفعل، إنها أخلاق الزهد المسيحى، والتصوف الإسلامى، ومبدأ (اللا تعلق) واسع الانتشار فى أنظمة التفكير الدينى الآسيوية، حيث تسود المعتقدات الهندوسية والبوذية فى الهند، والفلسفات الخلقية خصوصًا التاوية فى الصين. ولدى أنظمة التفكير هذه فإن المعاناة تنشأ من تعلق المرء بما لا يملك، وأحيانًا بما لا يمكنه أن يملك، ثم تصبح هذه الموضوعات التى يتعلق بها سببًا للمعاناة إذا لم يحصل عليها أصلا أو إذا فقدت منه. فإذا أمكن غرس روح «اللا تعلق» بموضوعات المعاناة، أمكن القضاء على تلك الموضوعات، وفتح الباب أمام الحياة الخيِّرة. ومن هنا أصبحت الممارسة العملية للفلسفة الهندية، فى أحسن صورها، هى فن العيش فى إطار سيطرة المرء الكاملة على ذاته، وضبط رغباته، بأنماط شتى من التدريبات، وأشكال عدة من الطقوس، تؤدى فى العموم إلى استنارة الروح، وتألق الوجدان حتى يتعالى الإنسان على شهواته، حينما تنبثق له رغبات أسمى، ومطامح أرقى، تتمثل فى الاندماج مع سر الكون، وأصل الوجود، الذى هو البراهمن فى الهندوسية، والبوذا فى البوذية، والتاو فى التاوية. هذه الممارسات العملية تقوم على مبدأ نظرى فلسفى، يمكن اعتباره دينيا، وهو أهمية معرفة الذات الإنسانية وعلاقتها بالوجود الشامل المحيط بها. فمن دون معرفة الذات لن يكون ممكنا السيطرة عليها، ولا تخفيف المعاناة الناجمة عن ميولها، لأنها سوف تبقى آنذاك مثل شذرة محدودة، مستقلة وضائعة فى الوجود. أما معرفة الذات فتقود إلى اكتشاف حقيقتها الكبرى، كونها مثل كل الأشياء، والعمليات المختلفة المتمايزة فى هذا العالم، مجرد تجليات لواقع أكثر عمقًا، لا يعرف الانقسام ولا القيود، يتجسد حسب «الأوبانيشاد»، كتاب البرهمية المقدس، فى «البراهمن»، وهو القوة العظمى التى تمنح الكون طاقته المادية، كما تمنح للذات الإنسانية «أتمان» طاقتها الروحية، لأنهما فى النهاية شىء واحد، بمثابة الأصل والفرع، يعود الأتمان إلى البراهمن، كما يعود الفرع إلى أصله فى نهاية المطاف. وهكذا تعمل القوة العظمى الكونية، باعتبارها الحقيقة الكبرى والنهائية، على تحرير الذات الإنسانية من ضعفها ورغباتها، فيتحقق لها الخلاص!