سلكنا نفس الأزقّة الموحلة مرات ومرات وسط رائحة الغاز الممزوجة بدخان عربة البطاطا. كنا نتصبب عرقا رغم برودة نوفمبر نسبيا، لم أكن شممت رائحة الخوف إلا مرات معدودات قبلها، لكننى وقتها شممته أقوى حتى من رائحة الغاز التى لم تترك بابا موصدا أو نافذة فى محيط المعارك إلا ونفذت منها. الدخول من «محمد محمود» وسط الجموع فيه خطورة أقل من التسلل عبر شارع يوسف الجندى أو من خلال باب اللوق ثم الفلكى، حيث الرصاص ينهال لا نعرف مصدره. عند الكر نصبح كيانا واحدا، شعلة من الطاقة ليس لها ملامح، تتقدم أحيانا وتتراجع أحيانا، ويستمر الكيان صبحا مع ليل، تتغير مكوناته، فيفرهد من يفرهد، ويستريح من يستريح، ويقع كثيرون بين مصاب وشهيد. كانت الاشتباكات تتواصل منذ أكثر من يوم ورائحة الغاز تطغى على الأجواء فنتنفس بالكاد، ولم نكن ندرى بعد أبعاد الملحمة، وأننا نشارك فى أحداث سيكون لها تأثير فى نظرتنا وتقييمنا للأشياء ما حيينا، وأننا بصدد أن نشهد الفرقان أو بمعنى آخر: القدرة على التمييز بين الحق والباطل بأعيننا، وإيجاد نهج إن ابتعدنا عنه علمنا أننا ضللنا الطريق. توجهت هذا اليوم فى مسيرة من شارع التحرير إلى باب اللوق مع صديقى محمود نهتف مطالبين المجلس العسكرى بسرعة تسليم السلطة، وكان الليل قد قارب أن يسدل أستاره عندما باغتتنا قوات بهجوم من اتجاه شارع الفلكى وباب اللوق، فجرينا فى اتجاه ميدان التحرير وسقط البعض من الاندفاع وآخرون من وابل الطلقات... أسعفنا القدر بوجود منزل قريب لصديق آخر، فصعدنا بمعجزة إلى شرفته لنراقب ما يحدث. وكانت الجثامين تتراكم عند ناصية الشارع والميدان تحت حراسة بعض الجنود. عندما تمتمت فى ذهول «دول ماتوا» رد محمود قائلاً «لأ استحالة... دول اتقبض عليهم بس» ولكن الجثث لم تتحرك لبرهة من الوقت ليؤكدوا بدورهم أنهم فارقوا الحياة. وسرعان ما تمت مداهمة مستشفى مسجد عباد الرحمن الميدانى، وأُضرمت النيران فى بعض الخيم المنصوبة داخل الميدان، وظننا لوهلة أن الأمر انتهى، لكن مثل مرات أخرى خلال الثورة فقد أوقدت هذه النيران وما صاحبها من عنف غير مبرر شعلة لملحمة استمرت 5 أيام دون توقف. إبراهيم عبد الناصر له شقيق توأم، عمرهما 17 سنة، قررا أن يذهبا إلى الميدان بعد أن سمعا أن هناك تاريخا يُحاك فى شارع عيون الحرية، تقدما بحذر واستوقفتهما أنوار الليزر الخضراء المنعكسة على جدران الجامعة الأمريكية، رفع إبراهيم رأسه مرة أخيرة ليرى الأضواء فأصابته طلقة فى رأسه وسقط إلى جانب توأمه غارقا فى دمائه، والده حكى لى بعد ذلك أن شقيقه تنتابه حالة من الذعر كلما رأى أضواء الليزر. لم يكن الهدف -كما صور البعض- الوصول إلى وزارة الداخلية، بل كان الحفاظ على الميدان ورفع مطلب واحد وهو تسليم السلطة إلى حكومة مدنية، كانت هناك رؤية واحدة لكل من شارك، وعى وسط البسطاء جاوز وعى النخبة وتطلعاتها. يُذكر أنه لم يتم تقديم أحد إلى المحاكمة حتى يومنا هذا، بل تم ترقية بعض المسؤولين عن جرائم قتل متظاهرين عُزَّل، بما يتنافى مع أى اتفاقيات لحقوق الإنسان وقعت عليها مصر. يُذكر أيضا أن معظم الشهداء لم يتجاوزوا وقتها الأربعين ربيعا قُصفت أحلامهم وكأن الرسالة الموجهة مفادها «هناك مثلكم كثيرون ولن ينتقص موتكم أو انقضاء أحلامكم الصغيرة منّا شيئا». إن ذهبت الآن ليلا إلى «محمد محمود» فتأكد أنك ستشم رائحة الغاز ممزوجة بدخان البطاطا. ستشعر بنفس الطاقة التى أحس بها المصلون وهم يصطفون على الخطوط الأمامية قبل خرق الهدنة، وستسمع أزيز الدراجات البخارية وهى تتتابع وسط الجدار الإنسانى، أحدهم يقود الدراجة وآخر يسند المصاب من خلفه. ستجد علم مينا دانيل يرفرف عاليا فى تحدٍّ وسط الركام والدخان.. سترى صديقى محمود وهو يجرى فى اتجاه الرصاص ليلا داخل شارع يوسف الجندى وهو لا يعلم إن كان سيخرج حيّا أم لا... سترى أطباء الميدان ببلاطيهم البيضاء والكمامات على وجوههم يقومون بعمل الإسعافات الأولية فى مرمى النيران أو يعطون توجيهاتهم بنقل المصابين إلى أحد المستشفيات الميدانية. هل كان كل هذا يستحق؟ ليس لدى إجابة الآن. ربما نعلم بعد سنوات إن كانت هذه التضحيات قد غيرت شيئا أم لا. كل ما أعرفه هو أن «محمد محمود» ستبقى فى وجداننا ما حيينا، وأن الأجيال القادمة ستتناقل هذه الملحمة حتى إن لم تذكرها مقررات الحكومة. «محمد محمود» فرقان الثورة... عندما تحالفت مطامع الكبار باختلاف توجهاتهم ضد نقاء الشباب ورغبتهم فى بناء وطن حر لا يأكل أبناءه، فسقطت ورقة التوت عن الجميع.