بعض المتصدرين الشاشات يرفعون شعار «لا تصالح» فى وجه النيات الحسنة التى ردَّت بها الرئاسة المصرية على دعوة العاهل السعودى بدعم المصالحة العربية. يتصوَّر هؤلاء أنهم قادرون على نفى أى خصم، وإقصاء كل مختلف، وإلغاء كل مناوئ حتى لو كان دولة لها وجودها الجغرافى والسياسى، وخريطة نفوذها الحاضر. بين القاهرةوالدوحة ما صنع الحداد، والمسألة أكبر وأعمق بكثير من مجرد التراشق الإعلامى، والمنصات المدفوعة خطاباتها مسبقًا، لكنها تمتد إلى عمق الأمن القومى المصرى، سواء بالتقاطع مع الجماعات الداخلية وخطاباتها فى محاولاتها نزع الشرعية عن السلطة القائمة، أو بحضورها فى ملفات تمويل الجماعات المناهضة والمقلقة لصانع القرار المصرى فى المنطقة كلها من سوريا شمالًا حتى ليبيا جنوبًا. التمويل والتسليح القطرى للميليشيات فى ليبيا أخطر على الأمن المصرى من كل المتشنجين على قنواتها وصحفها، وهم يتحدَّثون عن الانقلاب والمؤامرة الكفرية الكبرى على الإسلام. لكن المتشنجين على الجانب الآخر تستفزهم إشارات التهدئة بين البلدين، كأنه كان لا بد أن يكون صراعًا بلا نهاية، أو نهايته الوحيدة المقبولة هى طرح الخصم بطريقة لمس الأكتاف الكامل. الرئاسة إذن لديها حسابات أعمق من تفكير تلك الأبواق الزاعقة، تستطيع أن تحسب المكاسب والخسائر، تترك للطرف الآخر الفرصة الكاملة لإظهار إرادته فى الالتزام بالتهدئة، لا توصد الباب أمام المصالحة، تعرف أن الشقيق القطرى المتمرد لو أفلح وصدق، فسيوفّر على السياسة المصرية جهدًا كبيرًا، ليس فقط على مستوى الملفات الداخلية فى التعامل مع جماعة الإخوان، وإنما فى حلحلة كثير من المشكلات الإقليمية، وأهمها المسألة الليبية الأكثر تهديدًا لمصر. هذه الرؤية الرسمية العاقلة تحتاج إلى أن تتطور من مجرد اجتهاد مرحلى، أو استجابة لدعوة حليف مهم كالملك السعودى، لتصبح استراتيجية كاملة فى التعامل مع كل الملفات، «ما قد يأتى بالحوار لماذا نذهب به إلى المواجهة؟». الدولة التى تستعد لتهدئة واضحة مع الدوحة، قد يكون من بينها إسكات الأصوات التى تدق طبول الحرب ليل نهار، ووقف الإساءات الأخلاقية للعائلة الحاكمة، تستطيع أن تعتبر المجال العام فى مصر مثل قطر، وتستطيع أن تدرك مثلًا أن الفتيات المحكوم عليهن بسبب تظاهر سلمى، لم يهددن الدولة مثلما هددت قطر، ولم يمولن ويسلحن ميليشيات، ويتربصن بالدولة المصرية سياسيًّا ومخابراتيًّا، وإذا كانت قطر تستحق طى الصفحة معها، فملفات داخلية كثيرة ذات علاقة بالمجال العام وحق التعبير والتظاهر والتعدد والتنوع والحراك الطلابى والمجتمعى، تستحق أن تطوى صفحة الحل الأمنى معها، وفتح المجال إلى مصالحة حقيقية مع كل هذه الأطراف تحت مظلة الدستور. أولئك الذين يتمسَّكون بحق النقد ويتمسَّكون بحق التعبير ليسوا قطر ولا ممولين منها ولا يعملون معها، لكنهم مواطنون يتحرَّكون بمظلة من الدستور، ويواجهون من الدعايات والخطابات ما يوحى بأنهم أكثر خطرًا من «داعش» ومن يقف خلفها، وأولئك الطلاب المتمسكون بحقّهم فى تنظيم حراكهم الثقافى والسياسى داخل الجامعات دون وصاية أمنية، وهذا المجتمع المدنى الذى يسعى لشراكة حقيقية فى التنمية منطلقة من الدستور، وهذه الأحزاب التى تسعى لترجمة ما هندسه الدستور من تحديد لنظام سياسى قائم على التنافس والتعدد، كلها تحتاج إلى حوار ومصالحة، وأبواب مفتوحة وعقول تتفهَّم الفارق الحقيقى بين الماضى والمستقبل، وتعرف أن اختزال الخيارات فى الوصاية الأمنية لا يمكن أن ينقل بلدًا للمستقبل. وإذا كنا نتحدَّث عن مرجعية الدستور يصبح مفهومًا أن دعاة العنف ومروجيه، والذين يبدون ارتياحًا له ولنتائجه، لا يمكن التعامل معهم إلا بسيف القانون، بعد تقديم الأسانيد الكاملة على تورّطهم فى هذا العنف. بحساب المكاسب والخسائر، فالمكاسب من وراء استعادة قطر أو تحييدها أو تأمين شرّها على الأقل، هى مكاسب كبيرة توفِّر وقتًا وجهدًا كبيرَين، وبذات الحسابات أيضًا فالمكاسب من وراء مراجعة السياسات العامة فى ملفات الحريات وحقوق الإنسان والحراك العام كبيرة أيضًا، وتوفِّر طاقة كبيرة يمكن صرفها فى تطوير نموذج سياسى حقيقى ينتمى إلى المستقبل ويوضع فى صدر ما سيتركه رئيس فى مرحلة تأسيسية مهمة. الرهانات واضحة، لكن هناك دائمًا مَن يريد خطف النظام إلى مواجهة مع الجميع، ورفع بطاقات الاشتباه وتحريات التخوين فى وجه كل المختلفين، حتى ولو بالنقد السلمى، وإذا كان هؤلاء لن يؤثّروا كثيرًا فى قرار الرئيس بشأن القطريين، فالأولى أن لا يؤثّروا فى سياساته بشأن مصريين كثيرين، يقولون كلامًا مختلفًا من منطلقات وطنية أيضًا رغم قسوته أحيانًا، ولا يمكن الاطمئنان للمستقبل وهم يرهبون فى سمعتهم وأعراضهم ووطنيتهم.