يذهب كثير من التحليلات إلى أن محدودية جهود التنمية كانت العامل الرئيسى فى تغلغل تنظيمات الإرهاب والجريمة المنظمة فى شبه جزيرة سيناء. وتفترض هذه التحليلات أن إطلاق عملية تنموية ضخمة تعزز إدماج سكان سيناء فى نسيج الدولة المصرية وتتضمن توطينًا واسعًا لسكان الوادى والدلتا فيها يُعدّ هو أيضًا المدخل الرئيسى لمواجهة التحديات الكبرى التى ولّدها هذا التغلغل الواسع للإرهاب والجريمة المنظمة. ومع الإقرار بأن شقَّى هذه المعادلة، خصوصًا الأول، يتمتعان بقدر كبير من الصحة والجدوى، فإن إطلاق التفسير التنموى بعده جوهر المشكلة وسبيل حلها يتضمَّن أيضًا قدرًا كبيرًا من التبسيط المُخل الذى يتغافل عن الأثر الذى ألقاه -ولا يزال يلقيه- عديد من العوامل الجيوسياسية المرتبطة بتحولات الإرهاب والاضطراب السياسى إقليميًّا على سيناء خاصة، ومصر عامة. يتغافل التركيز على العوامل الداخلية عن حقيقة أن سيناء، ومصر عامة، باتتا تقعان فى بؤرة تنامى الظاهرة الإرهابية وتحولها باتجاه بناء تكوين شبكة إقليمية مترابطة تنظيميًّا وتمويليًّا. ومنذ مطلع التسعينيات من القرن العشرين، بدأت تبرز وبشكل متزايد ظاهرة الإرهاب المتنقل بين بؤر الرخاوة الأمنية على تخوم «العالم الإسلامى»، مع محاولات مشتتة لاختراق قلب العالم العربى، حيث لم تكن سيناء بمنأى عن هذه المحاولات، خصوصًا مع محاولة التنظيمات المتطرفة التغلغل إلى قطاع غزة بعد الانسحاب الإسرائيلى منه. وتصاعد زخم النشاط الإرهابى المتنقل مع اتساع ظاهرة انهيار الدولة العربية وتحللها عقب ما يُعرف ب«ثورات الربيع»، ليبدأ بروز شبكة إرهاب إقليمية ترتكز على أربع بؤر فراغ أمنى رئيسية فى ليبيا ومنطقة الساحل والصحراء غربًا، وسوريا والعراق شمالًا، ومنطقة بحر العرب والقرن الإفريقى جنوبًا، وأفغانستان شرقًا. أضحت سيناء بموقعها الجغرافى المتوسط ومع ما تعانيه من هشاشة أمنية هيكلية، وتهميش تنموى تاريخى، محورًا رئيسيًّا لأنشطة نقل السلاح والأفراد عبر «أقطاب الشر» المغذية لتلك الشبكة. وأفرزت المكاسب الكبيرة والسريعة المرتبطة بتلك الأنشطة تشوهًا اجتماعيًّا متزايدًا، خصوصًا فى شمال سيناء المتاخمة لقطاع غزة من جهة، والمتوسطة بين مناطق القتال والصراع فى كل من سوريا وليبيا. وفى خضم محاولة الاستيلاء على الدولة المصرية مع صعود جماعة الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم فيها، وما تبع ذلك من محاولات إسقاط الدولة عقب إطاحة حكم هذه الجماعة، أضحت سيناء بؤرة إرهابية تضم مقاتلين أجانب من كل من ليبيا والجزائر واليمن والصومال وسوريا والسعودية وأفغانستان ومن مناطق أخرى. ورصدت أجهزة الاستخبارات الأمريكية فى يوليو 2013، حسب ما نشرت صحيفة «The Daily Beast» الأمريكية، فى 7 أغسطس 2013، اجتماعًا عبر الهاتف شمل عددًا من قادة الجماعات الإرهابية القريبة من «القاعدة» فى سيناء، وعددًا من قادة التنظيم الإرهابى بمن فيهم أيمن الظواهرى لتنسيق النشاط الإرهابى ليس فى شبه الجزيرة فقط، لكن عبر الإقليم بأسره. ومع الضعف الهيكلى لوجود الدولة المصرية الأمنى فى سيناء فى ظل الترتيبات الأمنية المرتبطة بمعاهدة السلام مع إسرائيل، يثير المدخل التنموى لمواجهة تحديات الإرهاب والجريمة المنظمة فى سيناء وعبرها عددًا من المحاذير، أولها هو عدم توازن أى مردود تنموى مع المكاسب الكبيرة والسريعة وغير الشرعية التى حققها كثيرون ممن نشطوا فى تجارة السلاح وتجارة البشر فى سيناء. وفى هذا الصدد، يبدو أنه فى ظل تعزيز المدخل الأمنى القادر على كبح النزوع للانخراط فى مثل هذه الأنشطة، يمكن فقط للتنمية أن تكتسب جدواها لمن أراد أن يأمن العقاب. وثانيًا، فإن تزايد حركة البشر والنشاط الاقتصادى فى ظل أى عملية تنموية واسعة النطاق فى سيناء يتضمَّن كذلك زيادة فرص تغلغل العناصر الإرهابية والتمويل عبر قنوات جديدة سترتبط بهذا الحراك البشرى والاقتصادى. وأخيرًا، فإن تصاعد المواجهة مع تنظيم داعش فى سوريا والعراق، واحتمالات تفجّر مواجهات طائفية واسعة فى اليمن، يهددان بازدياد نشاط شبكة الإرهاب الإقليمية عبر سيناء، والأخطر هو محاولة البحث عن ملاذات آمنة فيها. يستلزم تفادى هذه المخاطر جميعًا ضرورة أن يسبق أى توسع بشرى واقتصادى وعمرانى العمل على تعزيز الوجود الأمنى للدولة المصرية فى كامل سيناء بشكل دائم ومستقر من خلال تعديل الترتيبات المرتبطة بمعاهدة السلام مع إسرائيل بشكل جوهرى. لكن يتعين الحذر كذلك من أن نجاح أى جهد للدولة المصرية فى تأمين سيناء لن يعنى القضاء على استهداف مصادر الإرهاب الخارجية لمصر، حيث يتوقع أن تسعى شبكة الإرهاب الإقليمية إلى تكريس مواطئ لها فى المناطق الداخلية من مصر، خصوصًا الساحلية منها كنقاط ارتكاز بديلة عما يمكن أن تفقده فى سيناء. إذا كانت الدولة المصرية لم تعد تمتلك رفاهية إهمال سيناء تنمويًّا، سواء للحد من محفزات التحاق بعض سكانها بشبكات الإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للإقليم، أو بعدها، أى سيناء كنز تنموى يمكنه أن يسهم بفاعلية فى دفع مصر بأسرها نحو آفاق تنموية غير مسبوقة وتزيد -فى حال عدالتها- حصانة المجتمع بأسره فى مواجهة أى تغلغل للإرهاب والجريمة المنظمة، فإنه يجب بالمثل الوعى أولًا بأن مصر تقع فى بؤرة خطر إرهابى بات يتجاوز مجرد عوامل الإحباط الداخلية، وثانيًا بأن هذا الخطر الذى تقع مصادره المغذية فى المحيط الإقليمى يتعين استكشافه والتعامل معه خارج حدود مصر، وأخيرًا، بأن إصلاحًا هيكليًّا يضمن تفعيل المنظومة الأمنية، وزيادة كفاءة حضورها بات شرطًا ليس فقط لتأمين أى عملية تنموية، لكن أيضًا لتفادى مخاطر التهريب والتسلل التى قد تترافق مع أى توسُّع فى انتقال الأفراد والبضائع والأموال.