فى 21 نوفمبر 1941 نشرت مجلة «المصور» مقالًا لصاحبة العصمة السيدة هدى شعراوى، وكان عنوان المقال: «زوجى علِى باشا شعراوى»، وقدمت المجلة المقال بكلمة جاء فيها: «بمناسبة عيد الجهاد الوطنى، وذكر الزعماء الثلاثة سعد، وعلى شعراوى، وعبد العزيز فهمى، رأينا أن نطلب إلى السيدة الجليلة هدى هانم شعراوى أن تحدث قرّاء المصور عن زوجها الزعيم الراحل، وكيف اشترك فى الحركة الوطنية، وما كان عليه من صفات كبيرة». وبدأت السيدة هدى شعراوى بعد هذا التقديم الفخيم، لتتحدث عن علاقتها بشعراوى باشا، منذ أن كان وصيًّا على أملاك وأوقاف أبيها الشاسعة، وكان علِى شعراوى هو كبير العائلة، وفى الوقت ذاته فهو ابن عمة هدى، ولكن الفارق الكبير فى العمر، الذى يقترب من الأربعين عامًا، جعل هدى تنظر إليه كما ينظر الأطفال إلى الكبار، وكان هو بارًّا حسب وصفها له فى المقال. ولكن بعد أن بلغت هدى ال13عامًا، قرر علِى شعراوى أن يخطب هذه الطفلة، ووافقت العائلة، إذ كان هذا مشروعًا فى ذلك الزمان، وكان قد سبق أن تقدَّم لخطبتها أكثر من شخص، وكان هؤلاء يخطبون الآنسة هدى من شعراوى نفسه، الذى كان يرفض حتى استبقاها لنفسه، وأشادت هدى شعراوى -فى المقال- بزوجها الراحل قائلة: «وقد رأيت فى زوجى الرجل الذى يحترم زوجته، ويحترم كرامتها، ويرى فيها نصفًا مكملًا له، ومساويًا له فى الحقوق والواجبات، لا خادمة للرجل، أو أَمَة لبيته وأبنائه، فقد كان يشركنى فى أموره، ويطلعنى على شؤونه، ومع ما كان عليه رحمة الله عليه من سداد الرأى، وبعد النظر، وقوة الحجة، فقد كان لا يرى غضاضة فى أن يأخذ برأى زوجته متى تبين له أنه خير من رأيه، وأنفع لمصلحته». وربما كان هذا الكلام الذى قالته أو أمْلته أو كتبته هدى هانم شعراوى، مبالغًا فيه بالنسبة إليها، إذ إنها صرَّحت فى مذكراتها بأنها تمرَّدت على هذا الزواج غير المتكافئ، والذى حرمها من العزف على البيانو، والتصرُّف بحرية كاملة، ومنعها من ممارسة بعض السلوكيات الصغيرة، ولكنها ذات شأن بالنسبة إلى المرأة، مثل حرية التدخين مثلًا وغيرها من تصرفات، وتقول بالنص فى مذكراتها كلامًا عكس ما كتبت فى هذه المناسبة، إذ قالت: «كنت إذا أردت زيارة صديقة أو قريبة، منعنى من الخروج، وإذا زارتنى صديقة أو قريبة استجوبنى استجوابات كثيرة وملحّة عما جرى بيننا من أحاديث، كأنما كان يخشى أن يكون قد وصل إلى علمى شىء لا يريد أن يعلمه.. وهكذا شعرت أنه يقيّد حريتى تقييدًا ظالمًا، وبدأت أشعر بالكآبة والسأم، وضاقت الحياة فى وجهى، وأصبحت أبكى كثيرًا لسبب ولغير سبب». والمذكرات مليئة بمثل هذه الشكوى المشروعة، لطفلة فى الثالثة عشرة من عمرها، تتزوَّج من شيخ يكبرها بأربعين عامًا، وربما الذى لم يكن مقبولًا، هو أن تكتب فى كل المناسبات التى تُقام حول عيد الجهاد الوطنى، بمناسبة يوم 13 نوفمبر عام 1918 عندما ذهب الزعماء الثلاثة للمعتمد البريطانى، لطرح المطالب المصرية فى الاستقلال ورفع الحماية عن مصر، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، إذ لم يكن هناك أى مبرر لاستمرار هذه الحماية التى كان الاحتلال البريطانى يفرضها على مصر، وكانت هذه الزيارة هى المقدمة الأولى لإشعال الثورة المصرية العظيمة فى مارس 1919. لم يكن هذا هو التناقض الوحيد الذى وقعت فيه الزعيمة النسائية الكبيرة، بل إنها لم تناقش مسألة والدها محمد سلطان باشا، رئيس مجلس النواب أيام الثورة العرابية بأدنى حكمة، وهو الرجل الذى أجمعت كل الأدبيات السياسية بثبوت خيانته للثورة، وتلقيه رشوة كبيرة من الخديو لإفشال الثورة، والإيقاع بعرابى، ودوره فى رشوة عربان الشرقية وعلى رأسهم العائلة الطحاوية لمواجهة القوات الوطنية، والذين كتبوا فى خيانة محمد سلطان باشا كثيرون، وعلى رأسهم عباس محمود العقاد والمؤرخ عبد الرحمن الرافعى ومحمد فريد باشا، وغيرهم من الأسماء الكبيرة، والتى لها مصداقية كبيرة. لكن السيدة هدى شعراوى، التى أزاحت اسم والدها جانبًا، لتتقلَّد اسم زوجها، آثرت أن تدخل منازلات مع التاريخ، وتتهم كل مَن شارك فى تشويه والدها بالخيانة العظمى، أو التضليل، وعلى رأس هؤلاء الزعيم أحمد عرابى نفسه، وولده عبد السميع، وزعمت فى مذكراتها أن هذا الابن ذهب إليها لتسهم فى نشر مذكرات والده، فاندهشت من هذا الطلب العجيب، والذى يجعلها تشارك فى نشر مذكرات تعمل على تشويه والدها، وكانت المفاجأة -حسب زعم هدى شعراوى- أن عبد السميع قال لها إنه يمكن أن يحذف الفقرات المتعلقة بوالدها، ولكن هدى شعراوى رفضت هذا الطلب. وتأتى القصة الشهيرة الدرامية، والتى تتعلَّق بالفنانة والراقصة فاطمة سرّى، والتى هام بها ابنها محمد، ونشأت بينه وبينها علاقة عاطفية وجنسية، وحدث أن حملت منه فى بنت، وحاول أن يماطلها فى إثبات بنوة هذه الطفلة التى ولدت فى ما بعد، ولكن بعد محاورات ومداورات كتب محمد شعراوى إقرارًا يثبت فيه بنوّة البنت له، ويعترف بزواجه من فاطمة سرى، وتجن هدى هانم شعراوى التى وقفت طوال حياتها تكتب وتخطب عن حقوق المرأة، وهالها أن يتزوج ابنها صاحب الحسب والنسب من هذه الفنانة الراقصة، فأوصت -كما يكتب مصطفى أمين- باختراع ملف لها فى وزارة الداخلية لإنهاء حياتها بأى شكل من الأشكال، وأعلنت فاطمة سرى الحرب على الزعيمة النسائية، ولكن قبل إعلان الحرب، أرسلت لها خطابًا بالغ الخطورة تنذرها فيه بالاعتراف بليلى شعراوى، وأظن أن هذا الخطاب المكتوب بحنكة استثنائية، أغاظ هدى شعراوى، وجعل منها نمرة، نسيت كل شعارات حقوق المرأة، ولكن فاطمة تجرجر خبر العائلة إلى المحاكم، وتثبت بنوة الابنة لعائلة شعراوى، وبعد ذلك تخضع السيدة المبجلة هدى شعراوى لحكم القضاء. هذه بضعة تناقضات للسيدة الزعيمة من حفنة تناقضات كثيرة، لا تلغى دورها العظيم فى إشاعة شعارات الحرية، وإثارة قضايا المرأة بشكل ما، وهذه تناقضات تنبثق من معين تناقضات الرأسمالية المصرية، التى تناقضت مع كل شعاراتها التى لها عمر قصير فى تصدرها قيادة الحركة الوطنية المصرية، والتى ما زلنا نعانى منها حتى الآن.