أتابع تجارب المخرج أحمد عبد الله، بقدر كبير من الاهتمام المشوب بالإعجاب «هليوبوليس» و«ميكروفون» و«فرش وغطا»، فى أفلام عبد الله لمحة عصرية حداثية فى اللغة السينمائية، صارت هى بصمته التى تشى باسمه قبل أن تقرأه على الأفيش. دائمًا هناك مسافة بين هذا النوع من السينما والجمهور، لا تستطيع أن تطلب من المبدع أن يقدم فيلمه على مقاس جمهوره، وبناء على طالبات الزبون. المتلقى وبنسبة كبيرة فى تعاطيه مع الفنون يميل إلى ما ألِفه وتعوَّد عليه، بينما المبدع يُقدم إحساسه أولًا والنغمة التى تتردد داخله. فى أفلامه الثلاثة الأولى، وخصوصا «فرش وغطا» كان عبد الله يعزف نغمة خاصة لدائرة محدودة، ولكنه فى آخر أفلامه «ديكور» اتسعت أمامه الدائرة لنجد لدينا إحساسًا شعبيا بهذا السيناريو الذى كتبه شيرين دياب ومحمد دياب من خلال لعبة ذكاء وصراع طريف مع الجمهور. رهان هذا النوع من الأفلام هو أن هزيمة المشاهد فى اللقطة الأخيرة تعنى فى نفس اللحظة تحية إلى صناعه، وإلا فما الدافع لكى يغادر منزله إلى دار العرض. الثالوث الدرامى هو أشهر صراع عرفته الدراما عبر تاريخها، الزوج والزوجة والعشيق أو العشيقة، لو نظرت إلى العلاقات الملتبسة داخل هذا الفيلم ستجدها، ولكن لا تتعجل فليست حورية فرغلى امرأة بين رجلين، خالد أبو النجا وماجد الكدوانى، كل منهما يؤدى فى نفس اللحظة دور الزوج والعشيق، هناك عالمان، واقعى وخيالى، وفى لحظة يختلط الأمر ليصبح كل منهما بديلًا ومعبرًا فى نفس اللحظة عن الآخر ولا يدرى الجمهور أين يبدأ الحلم أو ينتهى الواقع. التداخل يخلق الضحك، ولكنه أيضًا يدعو المتفرج فى نفس اللحظة إلى التأمل، هل نحن فى الحياة مجبرون على اختيارات محددة سلفًا؟ ماذا لو رفضنا أن لا يوجد طريق ثالث؟ هذا هو ما ترسله حورية إلينا من خلال البحث عن الحل الثالث، فى اللحظة الأخيرة تكتشف أنه فيلم داخل فيلم وأن التصوير بالأبيض والأسود كان ضرورة منطقية شعورية ولا شعورية، لم تستطع البطلة أن تفلت منها مثل القدر. بطلا الفيلم المتخصصان فى الديكور خالد أبو النجا وحورية فرغلى هما نقطة الانطلاق، حورية تعيش زمن الأبيض والأسود، دائمًا هناك شريط فيديو نتعايش معه ويحتل «الليلة الأخيرة» لكمال الشيخ مساحة كبيرة، إنها البطلة الحائرة بين رجلين وتستيقظ فجأة لتسترد ذاكرتها وتكتشف أنها تعيش باسم شقيقتها الراحلة، وأن أقرب الناس إليها يتآمرون عليها، وتستمر الحكاية والتناقضات بين الأبطال، كل منهم فى اللحظة التى يُمسك فيها بالحقيقة تتأكد أنك مثله تقبض بين يديك على الهواء، دائمًا هناك فيلم سينمائى أبيض وأسود، يلعب دور الحافز، حيث نشاهد مثلًا «نهر الحب» لعز الدين ذو الفقار الذى يعنى خيانة البطلة، ولا ينسى فى المشهد الأخير أن يستلهم «أيامنا الحلوة» لحلمى حليم عندما تُمسك فاتن بالستار على النافذة فى المستشفى، وبدلًا من عمر الشريف وعبد الحليم وأحمد رمزى نجد أبو النجا والكدوانى. المخرج يضع أبطاله فى ذروة الإبداع، ولدينا مشهد عبقرى للثلاثى عندما قال أبو النجا للكدوانى قل لها إنك لم تتزوجها، قال لم أتزوجها، وإنك لم تنجب منها، كرر ذلك، ولكن عندما طلب منه أن يكرر وأنك لم تحبها تحشرجت الحروف وتعطلت لغة الكلام، فصفق الناس للكدوانى على أدائه العبقرى، وبالمناسبة هذا الفيلم يشهد مولدًا جديدًا لحورية فرغلى، كأنها لم تُمثل من قبل. الديكور هو البطل الحقيقى، فهو الإطار الخارجى المصنوع، وكلنا بشكل أو بآخر نعيش داخل عالم من الكذب والادعاء، ويأتى المشهد الأخير لننتقل من زمن الخيال الأبيض والأسود إلى الواقع الملون، ولكن السؤال لم يمت، فى مثل هذه الأفلام التى ترتكن إلى مفاجأة النهاية يطلبون من الجمهور أن لا يذيع السر حتى لا يفسد المتعة على المتفرج الذى يرى الفيلم لأول مرة، هذه المرة يتجاوز الفيلم مفاجأة النهاية ليحيلنا إلى البداية.. ما رأيناه هو الحياة، بينما الواقع تجده أمامك داخل الديكور!