«يا من تذهب سوف تعود.. يا من تنام سوف تصحو.. يا من تمضى سوف تُبعث»، تلك هى الكلمات التى أصبحت المفتاح السحرى لنقرأ فيلم «يوم أن تُحصى السنين»، الشهير ب«المومياء» لشادى عبد السلام، وهو ما يمكن أن تجد له أصداءه فى فيلم «باب الوداع»، أول أفلام كريم حنفى، الذى يُمثل السينما المصرية رسميا فى مهرجان القاهرة. كان شادى يريد أن يرسخ أبجدية مغايرة لكل سينمات العالم، أرادها مصرية خالصة فى إيقاعها ومفرداتها وموسيقاها وحركة الممثل، كان الحوار به اقتصاد شديد، حتى إن نادية لطفى لم تنطق طوال الأحداث. لم يكن «المومياء» فيلما بقدر ما كان منهجا فى التعبير، وكان حلمه أن يكمل المشوار مع «إخناتون». اغتالوا الحلم ورحل، وظل «المومياء» فيلما استثنائيا فى تاريخنا، وأصبح هو الفيلم العربى الأول، وفى آخر استفتاء أقامه مهرجان «دُبى» فى العام الماضى ولا يزال عنوانا لنا فى مهرجانات الدنيا. نعم، سوف يُطلّ أمامك فيلم شادى الوحيد وأنت تتأمل «باب الوداع»، حيث استخدم المخرج الشاب أدواته فى التعبير بالصورة وشريط الصوت المصاحب بأغنيات مثل أسمهان «يا حبيبى تعالى الحقنى شوف اللى جرالى»، وبآية قرآنية بصوت أم كلثوم من فيلم «سلامة»، وهى قراءة ملحنة، وليست من بين القراءات السبع المعروفة، والشيخ زكريا أحمد أداها بأسلوبه اللحنى دون آلات بالطبع، لترددها أم كلثوم بعده، وهذا الإحساس النغمى التعبيرى ربما كان هو الذى دفع لا شعوريا المخرج الشاب إلى استخدامه فى الفيلم. منذ عرض «باب الوداع» كثيرا ما يواجهنى هذا السؤال: هل نحصل الثلاثاء القادم على جائزة فى المهرجان؟ ليس بعيدا أن تمنح جائزة لجنة التحكيم الخاصة للفيلم المصرى، وفى العادة فإن هذه الجائزة تؤول إلى التجارب التى تحاول القفز فوق السور لتقدم رؤية مختلفة، وهو بالفعل ما حاول المخرج أن يقدمه، وستجد أنه يتأثر بنفس البردية التى استلهمها شادى وصارت مفتاحا لقراءة «المومياء»، فكتب على الشاشة بمفردات أخرى: «أنت يا من كنت دوما هنا.. ستكون فى كل مكان»، والتعبير بحركة الممثل ونظرات عينيه، وهو ما برعت فيه سلوى خطاب، ولديك ومضات الإضاءة مع مدير التصوير زكى عاطف، ومونتاج أمير أحمد، وموسيقى راجح داوود، وصوت علاء الكاشف، لأن المؤثرات الصوتية كانت هى البديل عن الحوار. الفيلم لا يتحدى الموت الذى شاهدناه من خلال علاقة بين ثلاثة أجيال، جدة وأم وحفيد، بقدر ما هو تصالح معه، باعتباره خُطوة أخرى على الطريق لحياة أخرى، فنحن نعايش الموتى ونلتقيهم بشفرة أخرى فى التواصل، تظل مثل هذه التجارب تُشكل حالة استثنائية ترنو إلى السينما الخالصة، وهى بالمناسبة حتى بالنسبة إلى أفلام المهرجانات استثناء. هناك طموح على مستوى اللغة السينمائية يصطدم عادة بما هو سائد، والفيصل هو الضرورة والحتمية، وأيضا التكوين النفسى للمخرج. فى سينما الصمت مثلا فى مهرجان «أبو ظبى» شاهدنا فيلمى «تجربة» الروسى، و«حقل الذرة» الجورجى، الفيلم الأول كان صامتا، والمقصود بالصمت هنا هو اختفاء الحوار، والثانى به حوار مكثف للغاية، وأنا لست ممن يقرون تلك القاعدة التى يرددها الأكاديميون فى المعاهد، وهى أن السينما صورة، السينما عناق وكيميائية بين الصوت والصورة، فلا يزال مثلا العديد من الأفلام يستند إلى مسرحيات مثل المخرجة ليف أولمان، التى شاهدنا لها قبل أسابيع «الآنسة جوليا» للكاتب السويدى أوجست ستراندبرج، ورغم إخلاص المخرجة الشهيرة للنص المسرحى، والحوار بالطبع كان بطلا، فإننا كنا نتابع شريطا سينمائيا. لسنا بصدد شادى جديد، ولا «مومياء 2014»، حيث كان الدافع لدى شادى حتمية فى التعبير، بينما صلاح حنفى كان أمامه كل الطرق مفتوحة. شادى اختاره الأسلوب، بينما صلاح اختار هو الأسلوب.. والفارق شاسع!!