على مدى 95 دقيقة رأيتُ مصر على الشاشة فى مهرجان «أبو ظبى»، كانت التفاصيل كلها تؤكد أن المخرجة الموهوبة نادين صليب تدرك أن السينما ليست كاميرا تلتقط صورة، ولا ميكروفون ينقل صوتا، لكنه إحساس يكمن خلف الصورة والصوت، وعليها أن تقتنصه، وتنقله إلينا بوهج إبداعى، هذا هو ما يمنح العمل الفنى خصوصيته وألقه. ليست الجائزة هى الموضوع، ولا هى حجر الزاوية، الذى يستند إليه أى عمل فنى، لأنك مع الزمن تنسى الجائزة، ويبقى الشريط السينمائى. حصدت مصر مساء أمس جائزة «الفيبرسكى» الاتحاد الدولى لنقاد السينما عن الفيلم التسجيلى «أم غايب» فى المهرجان. هذه الدورة شاركت فى عضوية لجنة التحكيم مع أربعة أعضاء من كبار النقاد, من روسيا كيريل راسلوجوف، ومن بريطانيا ريتش كلاين، ومن الهند سوبرامانيان، ومن العراق قيس قاسم. لا أذيع سرا عندما أقول لكم إن الجائزة بالإجماع، حيث يمنح الاتحاد الدولى للنقاد جائزتين للسينما العربية، حصل «أم غايب» على جائزة الفيلم العربى التسجيلى الطويل، بينما الفيلم الأردنى «ذيب» للمخرج ناجى أبو نوار حصل على جائزة أفضل فيلم روائى طويل. قبل أيام قلائل كنت قد تناولت الفيلم الأردنى، هذه المرة نقرأ معا الفيلم المصرى. دعنى أولا أؤكد أن الانحياز فى اللجنة كان إلى الفن وليس إلى اسم أو جنسية المبدع، وأنا شخصيا تحمست للفيلم المصرى عن قناعة بأنه يستحق الجائزة بعيدا عن جنسية الفيلم ومخرجته. الفيلم عن الحياة، صحيح أن الموت يُطل من الشاطئ الآخر، الذى لا يبدو بعيدا، حيث إن كل من نراهم فى الفيلم يعيشون الحياة، ويعيشون أيضا مع الغائبين، حيث تظل المقابر حاضرة بقوة فى الأحداث وفى المشهد العام، بطلة الفيلم تعيش ما يمكن أن تصفه لو كانت الرؤية متعجلة بالمأساة، فهى عاقر لا تنجب، ولديها حلم الأمومة لا يتوقف، لكنها أيضا تملك قناعة بأن تلك هى إرادة الله، هو الذى يمنع ويمنح، وهكذا نتابع بطلة الفيلم حنان وهى تلجأ إلى الطب الشعبى، وما يصل إلى حدود الخرافة والشعوذة، وتتعرض لأقصى لحظات القسوة، وتتحمل نوعا من العلاج اسمه «كاهاروتا»، حيث يتدحرج جسدها على أرض جافة قاسية مليئة بالحجارة عدة مرات، وعليها أن تدفع ثمن الإنجاب بالإحساس بألم أنها تعيش المعاناة فى انتظار الطفل، الذى لا يريد أن يأتى، لكنها لم تفقد الأمل والأطباء أيضا الذين تلجأ إليهم يواجهونها بالحقيقة، لكنهم فى نفس اللحظة لا يقطعون الأمل. 12 عامًا وهى تنتظر هذا المولود، الذى لا يأتى, وترسم يد القدر أهم خط درامى، ويستجيب القدر للدعاء ويستجيب الجسد للحمل، ويحتفل أهل القرية بهذا الحدث بوليمة ضخمة، يشارك فيها الجميع، لكن لحظات السعادة لا تتجاوز مدة شهر، ونعيش المأساة مجددا بعد أن فقدت الجنين، نشعر بفقدان الأمل لكننا لا نخشى على البطلة حنان، فهى سوف تستمر فى الحلم، ربما لم تعد تفكر فى الحمل, ربما، لكنها سوف تعيش الحياة شعارها هو الرضا، إنه مفتاح السعادة، لو أردنا أن نجسد السعادة فى كلمة واحدة لوجدناها فى الرضا. من عناصر الجذب فى الفيلم هذا المقطع الذى يتكرر مثل «لزمة» موسيقية دائمة، حيث نشاهد أيادى إنسان تحت الماء تتشبث بالحياة، ويتكرر الأمر داخل مقاطع الفيلم، ويأتى المشهد الأخير لحنان، حيث تذوب فى المكان، وتذهب لعمق الكادر، لكننا لم نفقد أبدا التواصل معها، لا تزال تحتل بؤرة المشاعر. شاهدنا القرية المصرية الفقيرة فى تفاصيلها، لكنها غنية بمشاعرها, حرصت نادين صليب على أن تنقلنا دائما إلى الشاشة، فلا نشاهد فيلما، لكننا نرى مصر بأهلها وناسها الطيبين. هل كان البحث عن جنين ثم افتقاده هو القضية أم أن المخرجة من خلال هذا الإطار قررت أن تقتنص لمحة مصرية؟ واتسعت الرؤية لتشمل عديدا من الشخصيات داخل تلك القرية, مثل هذا الجد المحب للحياة، الذى يقرض الشعر برغبة جامحة فى الحياة. استطاعت نادين أن تحطم إحساسا بات لصيقا بالفيلم التسجيلى الذى يقع فى قالب التحقيق، وهو سيطرة قانون الريبورتاج التليفزيونى، هذه المرة كانت الرؤية السينمائية هى المسيطرة وعناصر إبداعية تتألق مثل تصوير سارة يحيى وموسيقى رامى أبادير ومونتاج ميشيل يوسف شفيق. الفيلم يقفز فوق المأساة، ويراهن على الإنسان، الذى يستطيع أن يُمسك بالحياة مهما اشتدت المعاناة, فهناك دائما ابتسامة رضا نعيش جميعا على شاطئها لنتنفس رائحة الدنيا.