ما هذا التطاول بالجملة على أبناء سيناء من بعض مدّعى الوطنية المتظاهرين بالمعرفة على منابر إعلامية غير مسؤولة؟ بعضهم يطلق الاتهام بلا تحرز بالتعاون تاريخياً مع الأعداء حتى إسرائيل، وبالتنسيق مع حماس فى اختراق حدود البلاد، وبتهريب البضائع، وبالإثراء عبر الأنفاق! والبعض يستهين بآخر تضحيات سكان الشريط الحدودى فى إخلاء دار الأهل والطفولة، لإقامة منطقة عازلة مع غزة من أجل أمن الوطن، ويقول بجرأة غير معهودة إنهم لن يخسروا شيئاً لأنهم بدو رحل لم يعتادوا على الإقامة فى عمارات ومبانٍ! ولا تتوقف السفاهات عند هذا الحدّ، بل هنالك من يقول كلاماً يمكن أن يُخضعه للمحاكمة، على الأقل بتهمة إزدراء بعض عناصر الأمة وإثارة النعرات وإشاعة مناخ الكراهية، ناهيك عما ينضح به الكلام من جلافة وغلظة! ولكن هواة التقاضى لا يحركون دعاواهم إلا ضد من يتجاسر على رموز الحكم! هذا كلام يترك ندوباً تبقى على مدار السنين ويَصعُب علاجُها، إلا إذا كان هناك إدراك عاجل بخطورتها يترتب عليه مواقف واضحة تعالِج ما سمَّمه هؤلاء، خاصة أن الحقيقة الدامغة هى تماماً على عكس هذه التهم الجائرة، فقد كان أبناء سيناء، ولا يزالون، من أكثر الفئات الوطنية التى عانت، ولا تزال تعانى، من أجل حماية الجبهة الشرقية التى شاء لها التاريخ والجغرافيا أن تكون بوابة الغزاة عبر آلاف السنين، وكانوا هم، عبر تاريخ البلاد التليد، أول من يتصدى بالقوة أو بالحيلة. ويحكى آخر جيل حارب فى مصر، الذين هم الآن من كبار الضباط أو ممن تقاعدوا بعد أن قضوا معظم خدمتهم هناك، كيف كان أهل سيناء هم الحاضنة لجنود مصر وكانوا العين التى تنقل كل ما ترى إلى قيادة الجيش، وكانوا أو من يشارك فى أعمال القوات الخاصة خلف خطوط العدو، كما يمدونهم بالمعلومات الدقيقة عن الأعداء، ويوفرون لهم المأوى والمخبأ من الخطر. لقد عرف الرأى العام المصرى، بعد حرب أكتوبر 73، أن أبطالاً من أبناء سيناء كانوا يقضون عقوبات فى سجون إسرائيل، بأحكام مختلفة يصل بعضها إلى المؤبد، بعد «إدانتهم» فى أعمال ضد جيش الاحتلال الإسرائيلى، وقد عادوا إلى أرض الوطن فى عمليات تبادل الأسرى، ولكن ليس للتكريم الذى يليق ببطولاتهم وإنما إلى التجاهل فيما يشبه نكران الجميل، ليقضوا بقية حياتهم فى ذات البؤس والتهميش الذى عاشته سيناء عبر تاريخها، حتى إن ما قيل إنه تعمير لسيناء بعد تحريرها لم يخرج عن أن يكون مزيداً من فرص البيزنس لرجال مبارك وللمستفيدين من نظامه لإقامة مشروعات سياحية لم يوضع فى خططها أن تعود بالفائدة على أبناء سيناء، الذين كان من المفتَرَض أن يكونوا هم أصحاب أول حق فى استثمار وتنمية إقليمهم الذى عانى الإهمال دائماً. من يمكنه أن يدّعى أن نسب الانحراف فى أوساط أبناء سيناء أكبر منها فى بقية أقاليم البلاد؟ ولماذا يؤخَذ أبناءُ سيناء دون غيرهم بجريرة العدد الضئيل ممن انحرفوا بينهم؟ انظر إلى موقفهم من طلب إخلاء بيوتهم لدواعى الأمن القاهرة التى فرضتها الحرب ضد الإرهاب الأسود الذى يستغل ثغرات المنطقة: طلبت منهم القوات المسلحة أن يغادروا فى أقل وقت، فلم يلطبوا إلا أقل القليل، بل أقل مما هم عليه: بيت يأويهم مؤقتاً، وإلى أن يتاح ذلك فليكن مخزن لتشوين أثاثهم وأشيائهم، وأما الأموال التى يقبلونها فهى ما يحدده الموظفون المتمسكون باللوائح، يحددون المتر المربع فى البيت ذى القواعد الخرسانية بكذا، وأما المتر المربع فى البيت المبنى على حوائط حاملة فأقل منه بكذا، ومقابل التنازل عن الأرض كذا فقط، لأنها مملوكة للدولة ولم يكن لصاحب الدار سوى حق الانتفاع بالأرض فقط..إلخ وبرغم أن أبناء سيناء لم يتسببوا قط فى ثغرات الأمن، إلا أنهم كانوا أول من دفع ثمنها! جاء الإرهابيون من مختلف البقاع ليقيموا هناك، إما عن غفلة من الأمن، وإما عن تواطؤ السياسة أيام حكم الإخوان، فعانى أبناء سيناء من كل الأطراف ومن كل الظروف: من الاضطرابات التى تطالهم شظاياها، ومن الريبة فيهم من طرفى النزاع الأساسيين، اشتباه الأمن فيهم فى بعض الأوقات، والتجاوز فى حقهم فى التحقيق والتحرى، ومن الناحية الأخرى انتقام الإرهابيين مِن كل مَن يتعاون مع الأمن أو مَن يُظن فيه هذا، ثم من التقييد الناشئ عن هذه الحرب المشتعلة، ثم من التهم التى تلحق بهم مؤخراً! وفى ستار من هذه الغيوم جرى حفر مئات الأنفاق، تمكن الأمن حتى اليوم من هدم 1845 منها! وليست هنالك معلومات معلَنة عن إجمالى الأنفاق المتبقية! ولكن الخطير فى الأمر أنه قد اكتُشف مؤخراً نفقٌ بطول 1750 متراً داخل الاراضى المصرية!! وقبل أن تسأل نفسك عن التقنية المتاحة لمثل هذا العمل وعن الطمأنينة التى عمل فيها من حفروه، فإن الخطر الحقيقى أن امتداده يتجاوز بكثير مدى ال 300 متر التى يجرى إخلاؤها الآن! كما أنه ليس هناك ما يؤكد أنه النفق الوحيد بهذا العمق! مما يُرَجِّح أن تحتاج القوات المسلحة مستقبلاً إلى إخلاء مساحة أعمق من حدود ال 300 متر التى تخليها حالياً، وهو الأدعى لإعمال النظر السياسى للموضوع وإبعاد عقلية الموظفين. ليت الدولة تفكر فى وضع الأساس لمدينة ساحلية حديثة متطورة، على أن يقوم سلاح المهندسين ببناء نواتها فى أشهر قليلة لينتقل إليها سكان الشريط الحدودى معززين مكرمين بما يليق بهم، على أن يلحق بهم آخرون من مساحات تالية كلما رأت القوات المسلحة ضرورة مع اكتشاف المزيد من الأنفاق الرهيبة مثل النفق المكتَشَف حديثاً!