منذ بداياته المبكرة كان مشاغبًا ومتمردًا وقادرًا على كشف أى عوار، والصفة الثانية التى ميّزته عن كثير من أبناء جيله، هى الجهر بهذا العوار، ومواجهة مرتكبيه حتى لو كان ذلك سيعود عليه بالاستبعاد أو التنكيل أو الخراب أو المرض والموت، كما كانت نهايته الدرامية، والتى لم يتعرَّض لها كاتب مصرى من قبل ومن بعد، فهو الفنان الشاعر الناقد المخرج الممثل والمعدّ لتحويل نصوص روائية للمسرح وهكذا، ورغم أنه أبدع فى كل هذه المجالات، وأصبح مرموقًا منذ مسرحيته الأولى «ياسين وبهية»، وأخرجها على خشبة المسرح الفنان كرم مطاوع، وكتب عنها نقاد مرموقون مثل محمود أمين العالم ورجاء النقاش وسيد خميس ومحمد مندور وآخرين، وفى العام ذاته 1964 أخرج مسرحية «بستان الكرز» للكاتب الروسى أنطون تشيخوف، وكان أول دواوينه «التراجيديا الإنسانية»، ثم انطلق بعد ذلك فى إصدار دواوينه ومسرحياته التى كانت تجد طريقها إلى المسرح، وهذا الإقبال على مسرحه ما زال فاعلًا حتى الآن، فنحن نلاحظ أن مسرحيتيه «منين أجيب ناس» و«ملك الشحاتين»، لهما حضور فى المراحل السابقة على خشبة المسرح فى الأقاليم. كانت رحلة نجيب سرور الذى ولد عام 1932 بقرية إخطاب، طويلة ومفعمة بالعمل الوطنى منذ أن قال الشعر عندما كان تلميذًا يسير فى المظاهرات، ثم التحق بكلية الحقوق، ولكنه تركها ليحصل على دبلوم معهد الفنون المسرحية عام 1956، وفى ذلك الوقت نشر كتاباته الشعرية والنقدية فى مجلات الرسالة الجديدة المصرية، وفى مجلتى «الآداب» و«الأديب» اللبنانيتين، وبدأت ملامحه الفنية تظهر، وكان قد خاض معركة قصيرة حول الشعر مع الناقد الطليعى محمود أمين العالم، وفى عام 1958 سافر فى بعثة إلى الاتحاد السوفييتى لدراسة فن الإخراج المسرحى، وعاد عام 1964، وفى أثناء رحلته كتب عددًا كبيرًا من المقالات، وأهم إنجازاته فى هذا الوقت المبكر كان دراسته المهمة عن ثلاثية نجيب محفوظ، والتى نشر جزءًا منها فى مجلة «الثقافة الوطنية» اللبنانية، بمعاونة الناقد اللبنانى محمد دكروب، والذى جمعها فى ما بعد ونشرها فى دار الفكر الجديد بعد رحيل نجيب سرور فى 24 أغسطس عام 1978، وهناك كتابات كثيرة لم تنج من الضياع والتجاهل والنسيان، وكانت هناك نيّة بالفعل لنشر كل كتابات نجيب سرور، ولكن لا أعرف ما الموانع التى عاقت ذلك، وبالطبع هناك القصيدة التى راح قراؤه ومحبوه يختصرون كل حياة وإبداع نجيب سرور فيها، وهى بمنطوقها المهذب «أميّات نجيب سرور»، هى العائق الدائم لنشر أعماله الكاملة، ولكن بعيدًا عن هذه القصيدة المنبثقة عن روح متمردة وثائرة وتقريبًا يائسة ومحبطة، كانت تعبيرًا صادقًا عن مشاعره المتدفقة والغاضبة فى محيط معظمه منافق، ونجيب سرور لا يحتمل النفاق ولا المداهنة، واختار أن يعيش فقيرًا مُعدمًا، فى مقابل أن لا يتلوَّث ويلوَّث بكل المستجدات الرديئة التى دخلت عالم المسرح المصرى منذ أواخر الستينيات، وهناك كتاب «هكذا تكلّم جحا» لسرور، يسرد فيه وقائع اغتيال المسرح منذ بداية السبعينيات، والإغراءات التى تعرض لها للمشاركة فى هذه المسخرة التى أصابت المسرح، وهو الذى تعرض لنقد حاد من خصومه الأشدّاء المهيمنين على مراكز الإعلام، حتى طورد فى رزقه، وتم التضييق عليه، ومنعه من التدريس فى معهد الفنون المسرحية، وكنّا فى هذه المرحلة شبه شريد، وشبه حطام، وكان صديقه صلاح عبد الصبور ينشر له إبداعاته فى مجلة «الكاتب»، ونشر فى المجلة ديوانه أو قصيدته الطويلة «بروتوكولات حكماء ريش»، التى يبدؤها بسرد إحباطاته فيقول: (لأن العصر مثل النعش لأنى جثة فى النعش لأن الناس..كل الناس دمى من قش لأن.. لأن.. المعنى فى بطن الشاعر والشعر عدو خواء البطن جوعان فى القرن العشرين والإنسان الجائع كلب كم فى الجيب؟!) وهذه القصيدة هى جانب من تجربته فى الضياع الأخير، وهى رحلة مثقف قال: لا، بقوة، ولم يرد المشاركة فى السيرك المنصوب يمينًا ويسارًا، مرة واحدة فقط حاول أن يخضع للمطلوب بعد صراع مرير، وذلك فى نهاية عام 1968عندما أعدّ مسرحية «ميرامار» المأخوذة عن رواية نجيب محفوظ، وهناك تم تعذيب نجيب سرور بالفعل، حتى خرج العرض بطريقة فجّة، وساعتئذ كتب فاروق عبد القادر مقالًا حادًّا ينتقد فيه نجيب سرور، ولم يكن ردّ سرور إلا تأكيدًا لما كتبه عبد القادر، ويعتبر هذا الرد عبارة عن شهادة دامغة لبدايات انهيار المسرح منذ ذلك الوقت، وهكذا بدأت خُطى نجيب سرور تترنَّح يومًا بعد الآخر، فيتم إدخاله مستشفى المجانين، ويتم التنكيل به فى حفلة شبه تنكرية ويمارس الجميع التنكيل به، حتى بعض مَن مدحوه فى بداياته، مثل الناقد عبد الفتاح البارودى، وفى رسالة مؤثرة يكتبها سرور لصديقه نجيب سرور، وكانت هذه الرسالة تنطوى على طلب قرض يسير من إدريس، ولكن الرسالة تحولت إلى مذكرة مستفيضة لإدانة العصر كله وليوسف إدريس الذى يحبّه وينحاز إليه بكل الأساليب، ولكنه يحذّره من الانزلاق إلى أشكال التهريج التى راحت تنتشر فى الحياة الثقافية والسياسية، ويصارحه ويقول له: «باقة الورد التى أرسلتها لك جيهان السادات لا تستحق منك مقالًا حتى لو كانت زوجة كسرى»، ويلومه عندما كتب مقالًا عند اغتيال يوسف السباعى، فيقول له: «لماذا أخذتك الجلالة حين قتل يوسف السباعى فحوّلت الأبطال إلى خونة؟»، ويقول له: «كل كثير أمام أمجادك يا هرمنا الرابع أقل من القليل، لكن المصيبة أنك تتخلَّى عن أسلحتك كثيرًا، فلم تستطع سلطة أن تعبث بك إلا حين فقدت طريقك»، إنها رسالة تصل إلى درجة الوثيقة لكشف العلاقة الغريبة والمعقدة بين حذر الكاتب وطموحه وربما أطماعه، وبين إغراءات السلطة وجبروتها المدمر لطاقات الكتّاب.