فى الثمانينيات، ميزانية الفيلم العادى كانت تتراوح ما بين ستمئة ألف وثمانمئة ألف جنيه مصرى، واليوم الفيلم، سواء مستقلا أو غيره تتراوح ميزانيته ما بين 3 ملايين و6 ملايين جنيه مصرى. هذا نظريًّا، أما عمليًّا فلا بد من عملية جراحية للوصول إلى الرقم المناسب لموضوع الفيلم ومتطلباته، وحسب أبطاله إن كانوا من النجوم أو من صفوف المغمورين. أمس كانت الميزانية تقدر بناء على خبرة المنتج أو مدير إنتاجه، وهى فى الغالب تظل ميزانية تقديرية إلى أن يُعرض الفيلم. أتذكر حين قالت لى المونتيرة الراحلة نادية شكرى، حين تقابلنا لأول مرة فى لندن، إنه لكى تنتج فيلمًا تحتاج إلى خمسة آلاف جنيه فقط كرأس مال ليحرك مشروع فيلم، والباقى يعتمد على سلفة الموزع، وهو بالتالى يعتمد على البيع المُسبق للبلاد العربية أيام كان الفيلم المصرى يعرض فى دور العرض بتلك البلدان، قبل أن تسيطر القنوات الفضائية على سوق التوزيع الخارجية. وصدقت نادية إلى حد ما حين عزمت على إنتاج أول أفلامى «ضربة شمس» دون أى خبرة إنتاجية، وقبل أن يتعثر المشروع كان نور الشريف هو طوق النجاة، الذى لولاه لربما لم يكن «ضربة شمس» ليرى النور. وكانت الأفلام فى تلك الفترة تقدر ميزانياتها بعدد أسابيع التصوير التى كانت ما بين الأربعة والستة أسابيع فى الظروف العادية، إلى جانب عدد العلب الخام التى تقدر ما بين الستين والمئة علبة خام حسب الموضوع وشطارة المخرج. واليوم دخلنا عالم الديجيتال، الذى اعتقد البعض أنه سيسهم فى تخفيض ميزانيات الأفلام، إلى أن اكتشفوا العكس تمامًا بتطور الكاميرات وارتفاع سعر إيجارها وتضخم رواتب العاملين، بعد أن ذاقوا طعم المال السهل فى عالم الإعلانات والمسلسلات، فأصبح المنتج ومدير إنتاجه مثل الجراحين يتفقدان بنود ميزانية الفيلم بحرص شديد، بحثًا عن نقط التخفيضات والمؤجلات، ليصلا إلى ميزانية تفصيلية، تضمن وصول فيلمهما إلى بر الأمان، دون الاعتماد الكلى السابق على التقدير المجازف. أصبح المخرج فى حيرة ما بين تضحياته واحتياجاته إلى الأدوات اللازمة لتحقيق إبداعه، وبالمثل أصبح المؤلف مقيدًا فى خياله، ليناسب ميزانية الفيلم. والنتيجة أن استقلال الفيلم ترجم إعلانًا عن فقره. ولادة أى فيلم تستدعى تضحية الجميع، إما إيمانا بقيمة الفيلم أو استسلاما لظروف السوق السينمائية. التفاؤل بعودة ازدهار السينما أصبح مجرد مُسكن لا دواء. هكذا تحولت ميزانية الفيلم إلى عملية جراحية لاستئصال ما يراه المنتج أورامًا مُعضلة بدلاً من البحث عن حلول مُرضية.