اهتم أغلب الإعلام المصرى فى تغطيته لقاء الرئيسين السيسى والبشير بالخريطة. الصور الرسمية التى وزعتها الرئاسة على وسائل الإعلام تُظهر الرئيسين وهما يجلسان، وفى الخلف منهما خريطة القطر المصرى، متضمنة وجود حلايب وشلاتين داخل الحدود المصرية. وبأسلوب جماهير كرة القدم، التى تهلل لمراوغة فى منتصف الملعب، لا تضيف كثيرا إلى نتيجة المباراة، جرى الاحتفاء بالصورة، كأنها تمثل اعترافا رسميا من البشير بتبعية حلايب إلى مصر. هل هذا هو المهم عن السودان حاليا؟ لماذا تشغلنا قضية حلايب بهذا التركيز وهذه المساحة وهذه التفانين المصرية، إذا كانت بالفعل داخل حدودنا وتحت سيادتنا، ولا يشغلنا السودان كله ومستقبله ووجوده إلى جانبنا؟ العقل المصرى الرسمى والإعلامى الذى يختزل التحديات مع السودان فى حلايب من جانب، وسد النهضة من جانب آخر، وحتى بعض مما ظهر من أثر عن تأثير سودانى فى ليبيا، هو عقل يغيب عنه كثير من مفردات الواقع السودانى، ومن الأخطار المحتملة حوله، وهى أخطار تستدعى قراءة أكثر عمقا، وتحركا أكثر حيوية، وإعلاما أكثر اتزانا. بعد 25 عامًا قضاها البشير فى السلطة، ينشغل السودانيون بسؤال: ماذا بعد البشير؟ وهو ليس مجرد سؤال حول تغيير رئيس فى ظل بحثه عن صيغة للتقاعد تؤمنه من ملاحقات «الجنائية الدولية»، وبحث حزبه الحاكم، الذى أسسه عن ترشيح غيره فى الانتخابات الرئاسية القادمة، لكنه سؤال مستقبل السودان، الذى فشلت رياح الربيع العربى فى انتزاع أوتاد نظامه، بينما تبدو مؤشرات كثيرة تنذر باحتمال لحاق السودان بمرحلة التنازع العسكرى على خطى الوضع فى جارته ليبيا. قبل أيام من الاستفتاء على انفصال جنوب السودان، قال إدوار لينو، القيادى فى الحركة الشعبية لتحرير السودان الحاكمة حاليا فى دولة الجنوب، إن «السودان مثل طبق الصينى الذى سقط من يد البشير، ليصطدم بالواقع ويتفتت». هذا التفتت لم يكن القصد منه مجرد انفصال الجنوب، لكن ما بقى من خريطة السودان يصفه دون عناء. فالتوتر الذى يتمدد شرقا وجنوبا، وينتظر شرارة التحرك فى النيل الأزرق وجنوب كردفان وجبال النوبة، والصراع الشمالى الجنوبى على «أبيى»، والأزمة الممتدة بلا حل ناجز، والمحملة بأثقال ضحايا كثر فى دارفور، إلى جانب التنازع السياسى فى الخرطوم بين النخبة السياسية والنظام، ووضع اقتصادى صعب وضاغط. بهذه العمومية دون غوص فى تفاصيل كثيرة لا تسمح بها هذه المساحة تبدو هذه خريطة التوتر فى السودان مع فشل نظام البشير فى إدارة التنوع الثقافى والقبلى والعرقى، أضف إليها استقرار النظام الإسلامى الطابع لمدة 25 عاما، وخلقه أجيالا متباينة من الإسلاميين بتنوعهم «الديمقراطيون منهم، والأصوليون، والسلفيون، والجهاديون»، بما يعنى أن أى فوضى قادمة ستصل النشاط المتطرف فى ليبيا بنشاط متطرف فى السودان، وتكون مصر فى قلب الكماشة الجهادية، وإذا أضفت إلى ذلك الوضع فى سيناء، تصبح جميع الجبهات الحدودية المصرية مفتوحة. استقرار السودان وحلحلته أزماته السياسية والثقافية لا بد أن يكون هدفا استراتيجيا مصريا، وجود البشير ونظامه ودولته ضمانة مؤقتة لهذا الاستقرار مع نوازعه البرجماتية التى يضع فيها مصالح نظامه قبل مصالح التنظيم، لكن رعاية مصر عملية سياسية دون تدخل أو محاباة لطرف على حساب آخر، هو نوع من الحركة المسبقة لاحتواء الكارثة قبل وقوعها. مستقبل السودان أهم من مستقبل حلايب، والسؤال عما نريده من السودان لا بد أن يسبقه سؤال حول كيف نحمى السودان، ونساعد أطرافه المختلفة على حماية وحدته وإدارة تنوعه وتضميد جراحه بانخراط حقيقى وكفء. هذا الطبق الصينى لا يجب أن يسقط، وإذا سقط مصطدما بواقعه الصعب، فلا تلومن إلا أنفسكم.