أوضحنا فى مقال الجمعة الماضية أن التفاقم غير المحسوب لمخاطر الصراعات الطائفية والمذهبية عبر الإقليم ربما يعزز محاولة جديدة لتقارب سعودى- إيرانى على أمل خفض حدة هذه الصراعات التى لم تعد هناك ضمانة حقيقية لعدم امتدادها إلى أراضى الدولتين خصوصا فى ظل ما تبدى من عدم امتلاك أى من دول الإقليم قدرة حقيقية على ضبطها، وكذلك فى ظل احتمال تصاعد الحرب الباردة بين الدولتين مع تزايد مؤشرات خفض انخراط الولاياتالمتحدة فى المنطقة. لكن هل يمكن توقع نجاح هذا المسعى الذى طالما أخفق طوال عقود سبقت حتى الثورة الإسلامية فى إيران عام 1979؟ على الرغم من الصورة السائدة عن كون الصراع بين البلدين هو طائفى/ مذهبى فى طبيعته، فإن هذا الصراع بين البلدين يسبق الثورة الإسلامية فى إيران التى رفعت شعار تصدير الثورة، واستخدمت «الورقة الشيعية» أداة رئيسية للتغلغل فى شؤون دول المنطقة. وكانت طموحات شاه إيران لامتلاك برنامج نووى يمنح بلاده المقدرة على تخصيب اليورانيوم، فضلًا عن الأطماع الإقليمية الإيرانية التى تجلت فى احتلالها لثلاث جزر إماراتية وادعاءاتها بشأن البحرين، عوامل قلق مهمة ومبكرة شغلت السياسة السعودية ووجهت بوصلتها فى اتجاه محاولة احتواء جهود إيران لمد نفوذها وهيمنتها عبر الإقليم. جوهر الصراع بالتالى هو التنافس على النفوذ والهيمنة بين دولتين تمتلكان من مقدرات القوة ما يهدد نفوذ الجار الآخر، وهيمنته. ودفعت سنوات طويلة من الصراع فى المنطقة وتزايد أسعار النفط، الدولتين إلى مراكمة فائض قوة -عسكرى ومالى واقتصادى وإعلامى- بات يُعدّ بذاته عاملا دافعا لكلا الدولتين لتعزيز سعيهما إلى الهيمنة والنفوذ الإقليميين، ليس فقط ارتكازا على المقدرة المتاحة لكليهما، ولكن على حقيقة أن المنطقة ستكون بؤرة مهمة لتركيز نشاطهما التنموى خلال السنوات القليلة المقبلة، فى إطار التحول التدريجى شرقا بعيدا عن أى علاقة تحالف استراتيجية مع القطب الأمريكى المراوغ. فى ضوء هذه القراءة يمكن فهم الدعم الإيرانى لعدد من التنظيمات السنية التى تتبنى قراءة سلفية محافظة تصل إلى حد تكفير الشيعة، وخلال العقد الماضى نلحظ دعما إيرانيًّا أو رعاية على أقل تقدير استفاد منهما كل من تنظيم القاعدة، وحركة طالبان الأفغانية، وحركتى الجهاد الإسلامى وحماس فى قطاع غزة. إلا أنه على الرغم من أن خبرات التعاون إيرانى مع تلك الجماعات السنية المتطرفة ارتبطت بمحاولة تعزيز قدرة طهران على التأثير الإقليمى وأوراقها التساومية فى مواجهة الولاياتالمتحدة، فإن مثل هذا التعاون ظل دائما فى الدائرة التكتيكية المؤقتة، وليس فى الدائرة الاستراتيجية طويلة المدى. ويكشف تنامى النفوذ الإيرانى فى العراق وسوريا ولبنان وأخيرًا اليمن. إن الأداة الطائفية تبقى هى الأكثر ثباتا ورسوخا وتأثيرا فى السياسة الإيرانية تجاه الدول العربية. وينقلنا ذلك إلى السؤال عن مدى التأثير الذى يمكن أن تحدثه أى محاولة تقارب سعودى- إيرانى على تهدئة حدة الصراعات الطائفية والمذهبية المتفاقمة. مثلما سبق وأوضحنا فإن جوهر التنافس بين الدولتين مرتبط ب«مصلحة الدولة» فى المقام الأول، إلا أن الركائز الدينية/ المذهبية المؤسسة لشرعية النظامين السياسيين السعودى والإيرانى، فضلًا عن طول أمد توظيف الأداة المذهبية فى دعم حضورهما الإقليمى، باتا يفرضان قيودا حقيقية على إمكانية تقليص وزن الأداة المذهبية فى إطار سياستيهما الإقليميتين. يعزز هذا الافتراض أن تسوية الصراعات الطائفية/ المذهبية على قاعدة الدولة الوطنية والمواطنة المتساوية يعنى من جهة تبنى خيار أكثر علمانية لبناء الدولة العربية، وهو ما يتعارض مع الفهم الدينى للسياسة الذى تتبناه كلا الدولتين، فضلًا عن أن نجاح مثل هذا النموذج الوطنى/ العلمانى سيطرح تحديا سياسيا جوهريا أمام نظاميهما الحاكمين. خيار ثانٍ قد يثار هو العمل على رسم خرائط لاقتسام النفوذ، بدلًا من التنافس والصراع عليه. ويرجح استبعاد هذا الخيار بدوره لاعتبارين أساسيين: أولهما، أنه يعنى التخلى عن حلفاء لكلا الطرفين فى مناطق النفوذ التى ستكون للطرف الآخر، وهذا يعنى فقدان الثقة لدى كل الأطراف الإقليمية التى ستبقى تعانى عبء الانقسام الطائفى والمذهبى فى دعم كلا الدولتين الحقيقى لها، بل إن الشرعية المذهبية الداخلية لكلا النظامين ستتأثر كثيرا فى حال تنامى الاضطهاد المذهبى فى مناطق نفوذ الطرف الآخر. وثانيهما: أن مناطق التنافس على النفوذ شديدة القرب جغرافيا من كلتا الدولتين، وقوية التأثير فى مصالحهما مما يستبعد إمكانية تخلى أى منهما عن مصالحه بالكامل فى أىٍّ من تلك المناطق، أو تغاضيه عن تداعيات التطورات السياسية فيها والتى ستمتد إليه حتما. يبقى الخيار المرجح هو محاولة إعادة إنتاج خبرة تسوية النزاعات الإثنية فى لبنانوالعراق، التى كان للدولتين دور مهم فيها، استنادا إلى منطق المحاصصة الطائفية فى اقتسام السلطة التى تبقى الدولة العربية رهن المشروع الطائفى وليس المشروع الوطنى، لكن هذا الخيار سيبقى مؤجلًا إلى حين تستقر رؤية كلتا الدولتين لطبيعة التغييرات الإقليمية المحتملة خصوصا حدود خفض الانخراط الأمريكى، وأفق التوصل إلى تسوية نووية تشتمل على ضمانات كافية لطمأنة السعودية ودول المنطقة عامة إلى عدم قدرة إيران على عسكرة أى برنامج نووى ستواصله. وفى الخلاصة فإن أى سياسة سعودية فاعلة لاحتواء أى تداعيات سلبية أو مخاطر لتمدد النفوذ الإيرانى وتغلغله فى المنطقة، لا يمكن أن تتأسس إلا على عاملين: الأول تعزيز البناء التكاملى العربى بما فى ذلك الجانب الدفاعى منه، حيث إن هذا البناء وحده هو الكفيل بردع أى طموحات إيرانية للهيمنة وردها إلى دائرة التعاون الإيجابى. أما الثانى فهو تحصين بناء الدولة العربية من خلال دعم نموذج ديمقراطية المواطنة، لا المحاصصة الطائفية.