خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسى من على منبر الأممالمتحدة رسالة فى اتجاهات عدَّة. الرسالة أساسها أن السيسى الآن فى نيويورك، أو «التفاحة الكبيرة» كما يسميها الأمريكيون، لإلقاء كلمة أمام الدورة ال69 من أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وإجراء سلسلة من اللقاءات والمحادثات التى تمثّل تحركًا دوليًّا مهمًّا يدعم رؤية مصر وهى تواجه تحديات عدة وتتحرَّك فى الوقت نفسه لاستعادة دورها ومكانتها إقليميًّا ودوليًّا. وجود السيسى فى نيويورك رسالة للعالم بأن مصر تزيل عن نفسها آثار الحكم الديكتاتورى والاستقطاب الدينى فى تقدير كثيرين، فإن وجود السيسى فى حد ذاته فى هذا المحفل الدولى الأكبر، بعث برسالة مهمة إلى العالم أجمع مفادها أن مصر تزيل عن نفسها آثار أعوام طويلة من الحكم الديكتاتورى والارتباك السياسى ثم الاستقطاب الدينى والأيديولوجى فى عهد جماعة الإخوان المسلمين. جدول الأعمال المزدحم للسيسى فى نيويورك، جسَّد رغبة لدى المجتمع الدولى فى التعرُّف على الرئيس، باعتباره رئيسًا منتخبًا يقود مرحلة البناء فى مصر. ووسط اهتمام ملحوظ بالاطلاع على رؤية مصر فى الداخل والخارج، بدت الزيارة الحالية للرئيس لنيويورك ومشاركته فى أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، زيارة للعالم، وليست زيارة للولايات المتحدة وحدها. رسائل السيسى فى نيويورك رسالة خطاب السيسى أمام الأممالمتحدة قوامها أننا بصدد رسم ملامح مصر جديدة تتطلع إلى المستقبل ولا تلتفت إلى الماضى. ذهب الرجل إلى ذلك المحفل الدولى وقد أنجز خطوات مهمة خلال 15 شهرًا، ابتداءً من تخليص البلاد من حكم رفضه الشعب إلى اتخاذ قرارات صعبة لإصلاح المنظومة الاقتصادية البالية التى يستنزفها دعم مهدر لا يصل إلى مستحقيه، كما أنه فتح الطريق واسعًا أمام مشروعات اقتصادية عملاقة من المأمول أن تُغيّر من الواقع الاقتصادى والاجتماعى للبلاد. هذه هى مصر التى تحدث عبد الفتاح السيسى باسمها على منصة الأممالمتحدة فى 25 سبتمبر 2014. أكد السيسى خلال كلمته للعالم أن مصر ستتمكّن من إعادة بناء نفسها وأن المصلحة العالمية تقتضى استقرار المنطقة واستقرار مصر تحديدًا كقلب لهذه المنطقة، وتضمّن الخطاب قضية مواجهة الإرهاب سواء فى مصر أو العراق أو سوريا أو ليبيا أو غيرها من الدول العربية، خصوصًا أن مواجهة الإرهاب هى الهدف والأولوية فى هذه المرحلة. كما التقى السيسى عددًا من رؤساء الدول، فى مقدمتهم الرئيس الأمريكى باراك أوباما، ليكون ذلك هو أول لقاء دولى عام للرئيس بعد 100 يوم من توليه السلطة فى مصر. من هنا بدا خطاب السيسى أمام الجمعية للأمم المتحدة خطوة تتجاوز أى توصيف روتينى لفكرة إلقاء كلمة، ليصبح هذا الخطاب مرآة لأفكار قيادة سياسية جديدة تخوض حروبًا وتحديات شرسة وتواجه ضغوطًا داخلية وخارجية، وبالتالى فإنها كانت مناسبة ثمينة لسماع رأى السيسى ومؤسسة الرئاسة بصوت عالٍ فى قضايا الساعة وسبل التعامل معها على أفضل وجه. أخطاء مرسى الفادحة قبل السيسى كان خطاب الرئيس محمد مرسى، أمام الأممالمتحدة فى 26 سبتمبر 2012، نموذجًا لسلسلة من الأخطاء الفادحة، ومن ذلك إغفال الإدانة المباشرة لانتهاكات إسرائيل فى الأراضى الفلسطينيةالمحتلة، وعدم اختلاف السياسة الخارجية لمصر فى عهد مرسى عما كانت عليه فى عهد مبارك، فى ما يخص كثيرًا من القضايا الدولية كالعلاقة مع إيران والولايات المتحدة والموقف من القضية الفلسطينية. الخطاب عانى كذلك نقصًا فى المعلومات فى كثير من قضايا السياسة الخارجية، وهو ما يشير إلى حالة من عدم الكفاءة، كانت سمة عامة فى عهد حُكم الجماعة. اهتم مرسى فى كلمته بإظهار أنه أول رئيس مدنى يأتى به المصريون فى أعقاب ثورة 25 يناير، حيث قال إن «حضورى اليوم وحديثى إليكم يحمل معانى عديدة تتجلَّى فى أننى أول رئيس مصرى مدنى منتخب ديمقراطى بإرادة شعبية حرة فى أعقاب ثورة سلمية عظيمة شهد لها العالم كله، هذه الثورة التى أسَّست شرعية حقيقية بإرادة الشعب المصرى بكل أبنائه وفئاته داخل وخارج مصر الوطن، وكان لهذا الشعب بفضل الله ما أراد». خطاب مرسى فى الدورة 67 للجمعية العامة للأمم المتحدة، لم يخرج عن النص المعتاد فى عهد حسنى مبارك، وهو أيضًا لم يخرج عن مواقف الخارجية السياسة المصرية المعتادة إلى جانب أنه أكد الالتزام بمعاهدة السلام والمعاهدات الدولية التى وقّعتها مصر. مرسى أكد أيضًا إعلان الشرق الأوسط منطقة خالية من السلاح النووى، وأعلن التضامن مع الشؤون الإفريقية وكل هذه مواقف معروفة للسياسة الخارجية منذ القديم، وهو بذلك لم يأتِ بجديد. خطاب الفترة الرئاسية الأولى لمبارك وفى بداية فترته الرئاسية الأولى ألقى الرئيس حسنى مبارك كلمة مصر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى عام 1982، حيث طالب الأممالمتحدة بتعزيز دورها فى الحفاظ على الأمن والسلام، وحثّ الدول على الالتزام بالقانون والشرعية، مشيرًا إلى أن هناك بعض الدول التى لا تلتزم بنصوص ميثاق الأممالمتحدة. وقال مبارك فى كلمته إن «من القضايا التى يجب أن نوليها اهتمامنا الأكبر القضاء على خطر نشوب حرب أهلية لأن مثلها كفيل بالقضاء على حضارة الإنسان، فلا يمكن أن يخرج منها منتصر ومهزم، ولذلك فإن من واجبنا جميعًا أن نضاعف جهودنا للحؤول دون وقوع هذه الحرب النووية أيًّا كانت مواقعنا الجغرافية، كما أن من واجب الدولتين الأعظم بصفة خاصة بذل مزيد من الجهود لإنجاح مفاوضات الحد من الأسلحة النووية بجنيف». السادات يبحث عن الوفاق العالمى أما خطاب الرئيس أنور السادات أمام الأممالمتحدة فى 29 أكتوبر 1975، فقد أكد فيه التزام مصر بالمبادئ العامة للأمم المتحدة، ونوّه بالتعاون والتضامن العربى الذى ظهر فى حرب أكتوبر 1973، معتبرًا أن العالم العربى سيكون له دور كبير فى تطوير العالم. كما تحدَّث السادات عما سماه التوافق بين الدول، مؤكدًا حق جميع دول العالم فى السلام العادل الذى يجب أن لا يكون مقصورًا على الدولتين العظميين، حيث قال «نحن فى مصر مع الوفاق ونرحّب به إذا أخذ فى الاعتبار مصالح الدول الصغرى ومصالح شعوبها، إذا كان الوفاق شعارًا للسلام بين القوتين الأعظم فقط فى مجال الأسلحة النووية أو عن طريق التعاون فى ميادين التكنولوجيا والتجارة وغيرها بمعزل تام عن باقى شعوب العالم، فإنه يكون تحوّلاً لا خير فيه يجب أن تقف ضده الدول الأخرى المتوسطة والصغرى». فى خطابه المذكور، دعا السادات إلى عقد مؤتمر جنيف فورًا بحضور منظمة التحرير الفلسطينية، بهدف التوصل إلى تسوية عادلة وشاملة للقضية الفلسطينية. ومما جاء فى الخطاب: «ثم إن هدفنا الأول الذى يحكم كل تصرفاتنا العربية والدولية هو تحرير كل الأراضى العربية المحتلة، واسترداد حقوق شعب فلسطين، وتمكينه من الإمساك بزمام أمره وحرية تقرير مصيره، وفى هذا المجال ليس لدينا أرض عربية أقل إعزازًا من أرضنا فى القدس ونابلس والخليل وجبل الشيخ وغزة. ليست أقل إعزازًا من القنطرة والعريش. ومن هذا المنطلق فإن سياستنا تقوم على الإيجابية ومرونة الحركة، مع ثبات الهدف الأخير، وبالتالى عدم تفويت أى فرصة لتحرير أى قطعة من الأرض العربية حيثما تكون. وتأسيسًا على ذلك، فإننى أدعو رسميًّا كلاًّ من السكرتير العام والدولتين العظميين الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة، بصفتهما رئيستى المؤتمر، لأن يبدؤوا فورًا مشاوراتهم مع جميع الأطراف المعنية -بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية- لكى ينعقد مؤتمر جنيف فى القريب العاجل، وبحيث تستمر اجتماعاته دون انقطاع، لمعالجة المشكلة بأكملها ومن كافة جوانبها للتوصُّل إلى السلام العادل والدائم. واتصالاً بهذا الطلب الرسمى لعقد مؤتمر جنيف، فإننى أدعو الجمعية العامة فى دورتها الثلاثين هذه، لتخطو خطوة فعالة فى طريق السلام العادل، بأن تصدر قرارًا بضرورة تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعى لشعب فلسطين فى أعمال مؤتمر جنيف للسلام، على قدم المساواة مع باقى الأطراف المشتركة فى هذا المؤتمر. إن مصر والأمة العربية كلها، إذ تهيب بالمجتمع الدولى، ممثلاً فى الأممالمتحدة، أن يجعل عام 1976 عامًا لشعب فلسطين،واختتمه: «ومن ثَمَّ فإننا نعتبر قضية الشعب الفلسطينى قضية كل شعب حر يسعى إلى السلام، ويدعو إلى العدالة، ويرتضى القانون حكمًا بين الحق والباطل، الصواب والخطأ، ونحن نفعل هذا بنفس الروح التى حدت بنا إلى تبنِّى قضايا كل شعب مقهور مغلوب على أمره، يسعى إلى التحرر والخلاص». الزعيم يخطب والعالم يستمع حضر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر اجتماعات الدورة الخامسة عشرة للجمعية العامة للأمم المتحدة فى عام 1960، حيث ألقى كلمة أُذيعت على شبكات الإذاعة والتليفزيون، ونالت إعجاب الشعوب العربية، حيث قال فيها «لقد حان الآن الوقت الذى يجب أن تنتقل فيه أمانى الشعوب وحقوقها من عالم النظريات إلى عالم الواقع، الشعوب المناضلة كلها الآن مستعدة للحرية، مستعدة لتحمل مسؤولياتها، مستعدة للتعاون على أوسع مدى فى سبيل دعم هذه الحرية وتمكينها». وقد حازت القضية الفلسطينية على جزء كبير من خطاب ناصر الذى قال «فى منطقتنا من العالم فى الشرق العربى نسيت الأممالمتحدة ميثاقها، ونسيت مسؤولياتها المتعلقة بحقوق شعب فلسطين، فهل أدّى مر الأيام والسنين إلى حل للمشكلة؟ فى كلمته التى ألقاها فى 5 أكتوبر 1960، قال الرئيس عبد الناصر إن «الحل الوحيد فى فلسطين، كما هو الحل الوحيد فى الكونغو، أن تعود الأمور سيرتها الأولى، وأن ترجع إلى النقطة التى بدأ الخطأ عندها». وأضاف «ولست أريد هنا أن أستدر دموعًا على أحوال اللاجئين من شعب فلسطين، وإنما نريد لشعب فلسطين حقوقه كاملة، ولا نريد له الدموع». كلمة الزعيم تفضح الاستعمار نص الخطاب تضمن أيضًا فقرات تستحق أن نوردها، إذ قال عبد الناصر: «لقد أثبتت حرب السويس أن الحرية لها أسلحتها، وأن الحرية لها أصدقاؤها فى كل مكان، ولقد كنتم أنتم هنا فى هذا المكان -فى هذه القاعة بالذات- من أسلحة الحرية وأصدقائها، وبفضلكم وبفضل جهودكم التى مثّلت قمة الإيمان العالمى بالحرية، استطاع شعبنا أن يصمد ضد العدوان، وما لبث المد الاستعمارى أن انحسر عن شواطئنا واندحر، وكان انحساره واندحاره نهاية عهد المطامع المسلحة». «هكذا رأينا الاستعمار مترددًا بين الإقدام والإحجام، تناديه المطامع أن يضرب وأن يبطش ثم تشدّه حقائق الحياة عن المضى إلى تنفيذ هواه. ولقد تجلَّت فترة التردد الاستعمارى بأوضح صوره أيام ثورة شعب العراق، فحين هبّ هذا الشعب العربى المجيد يحرر بلاده من التبعية لمناطق النفوذ، رأينا الاستعمار بثورة الغضب المشتعلة يحشد الجيوش ويحرّك الأساطيل، فإذا ما جاءت الساعة الثانية بعد ثورة الغضب الأولى، وجدنا الاستعمار يفيق للواقع، فإذا هو لا يدرى ماذا يفعل بالجيوش التى حشدها، ولا بالأساطيل التى حرّكها». «إنه من الأمور البالغة الأهمية أن لا تنسى الأممالمتحدة نفسها.. لا تنسى ميثاقها ولا تنسى قراراتها، وإلا فإننا نشجع بذلك الذين يحاولون تناسى الأممالمتحدة وتجاهل وجودها، وإننا لنرى أمامنا المثال الصارخ الفاضح لهذا التجاهل فى سياسة فرنسا تجاه الجزائر، فلقد عرقلت الحكومة الفرنسية كل محاولة للأمم المتحدة تستهدف وضع حد للمجازر الاستعمارية فى الجزائر، وراحت هذه الحكومة تتصوَّر أنها قادرة بالمدافع على أن تغيّر إرادة الله الذى جعل الجزائر قطعة من القارة الإفريقية، وجعل شعبها جزءًا من الأمة العربية، فإذا هى تحاول أن تجعل من أرضها امتدادًا جغرافيًّا لفرنسا، ومن شعبها شعبًا تابعًا مستعبدًا». «وبرغم كل المحاولات التى بذلتها الحكومة الجزائرية الحرّة، التى تعبّر عن تصميم شعب الجزائر، وترمز لإصراره على الاستقلال، رغم كل المحاولات التى بذلتها هذه الحكومة الجزائرية من أجل الوصول إلى حل سلمى، فإن هذه المحاولات كلها لم تصل إلى نتيجة إيجابية». «لا بد للأمم المتحدة فى ذلك كله وفى غيره، وعلى الأخص فى مشكلة التمييز العنصرى المقيت، وفى أمر كفاح الشعب العربى فى عُمان، والمحميات فى شبه الجزيرة العربية، أن تذكر وجودها حتى تفرض هذا الوجود باعتباره المفهوم الوحيد للسلام القائم على العدل». «إيماننا بعدم الانحياز طريقًا إلى السلام، إيماننا به دعوة صادقة خالصة، وإيماننا به نضالاً إيجابيًّا مقاتلاً». «وإنكم لتعلمون أن تيارًا ثوريًّا وطنيًّا يجتاح الآن بلادنا، بل إننا نقول إن وطننا الجمهورية العربية المتحدة يعيش الآن ثلاث ثورات فى وقت معًا.. ثورة سياسية عبّرت عن نفسها بمقاومة الاستعمار فى جميع مراحله منذ كان سافرًا على شكل قوات احتلال حتى تستر وراء الأحلاف العسكرية التى لم نرَ فيها غير محاولة لإخضاعنا لسياسة مناطق النفوذ». «ثورة اجتماعية عبَّرت عن نفسها بمقاومة الإقطاع والاحتكار وبالعمل المتفانى من أجل زيادة الإنتاج رفعًا لمستوى المعيشة وتمكينًا لتكافؤ الفرص بين المواطنين تحقيقًا للعدل الاجتماعى. ولقد كانت خطة مضاعفة الدخل القومى فى عشر سنوات التى بدأ تنفيذها هذا العام فى إقليمى الجمهورية العربية المتحدة هى صورة هذا العمل المتفانى، والرمز الواضح لتصميم شعبنا على بناء وطنه». «ثم ثورة عربية عبَّرت عن نفسها بمقاومة الفرقة المصطنعة والحواجز المادية والمعنوية التى وضعها الذين أرادوا أن يحكموا وطننا بالفكرة (الميكيافيلية) المشهورة (فرق تَسُد)». «وإننا لنعلن أننا نؤمن بأمة عربية واحدة، لقد كانت للأمة العربية دائمًا وحدة اللغة، ووحدة اللغة هى وحدة الفكر، وكانت للأمة العربية دائمًا وحدة التاريخ، ووحدة التاريخ هى وحدة الضمير، ولسنا نرى أساسًا قوميًّا أمتن من هذا الأساس ولا أثبت. هكذا كانت زيارات رؤساء مصر إلى مقر الأممالمتحدة، وكلماتهم على منبرها الدولى، انعكاسًا لرؤى وأفكار وتحديات وأولويات فى ذهن كل قيادة سياسية.