السياسة أقرب العلوم الاجتماعية إلى الفيزياء. أحدهما ينظم العلاقة بين قوى المجتمع، وثانيهما يفسر العلاقة بين قوى الطبيعة. ويبدو أن سياسيينا لا يريدون أن يفهموا هذا ولا ذاك. بل ينفقون الوقت والجهد فى تخليق قوى ليس لها وزن ومحاولة تضخيم دورها فى المعادلة. وعلى الجانب الآخر يعتقدون أن عدم اعترافهم بقوى مهمة سوف يخرجها من حساب محصلة القوى. وأنا أعنى هنا الشباب، القوى الفاعلة فى أى أمة، فما بالك بأمة لم تنفض عن نفسها بعد غبار ثورة قادها هؤلاء الشباب. الصورة السياسية الراهنة ستجعل الشباب يخرج من كل شارع وحارة، من مدرجات الكرة، من السينمات، سيرقدون أمام مجلس الشعب، سيعتصمون أمام الوزارات. قل وغن من المساء إلى الصباح، لن يصدقوك، لأن الشرعية التى لا تشمل القوى الفاعلة لا تكتسب مصداقية. وأنا هنا لا أشكك فى جدارة من حصل على الأغلبية فى الانتخابات. أبدا أبدا، كتبت قبل ذلك مهنئا ومحييا. لكننى أشكك -وأنتم فى قرارة أنفسكم تعلمون- فى نزاهة العملية السياسية. وهذا يختلف كثيرا عن نزاهة الانتخابات وعدم نزاهتها. إحصاء عدد الأصوات فى صناديق الاقتراع يأتى فى النهاية، لكن قبله اختيار التوقيت بما يلائمكم وبما يضمن إقصاء الآخرين، التبديل والتغيير بما يلائمكم (كانت الرئيس قبل الدستور ثم صارت الدستور قبل الرئيس)، استخدام الإعلام بما يلائمكم، نشر الشائعات عن الخصوم السياسيين دون إحالة إلى النيابة العامة بما يلائمكم، بل وحجب تقرير لجنة تقصى الحقائق الذى أثبت أن جماعات دينية تمَّول من قطر والكويت، بما يلائمكم. كل هذا يعنى أن العملية السياسية لم تكن نزيهة. الفيزياء إذن التى أعطتنا قانون الطاقة: لا تفنى ولا تستحدث من عدم. وأعطتنا قانون رد الفعل: لكل فعل رد فعل مساو له فى المقدار ومضاد له فى الاتجاه. مهم جدا أن يكون السياسى ملما بأبجديات الفيزياء لكى يفهم أبجديات السياسة، وأن يكون مقتنعا بالفيزياء لكى يقتنع بالديمقراطية. وإلا سيعتبر أن إحكام الغطاء على إناء البخار سينجح فى كتمه. لا يا سيدى، بل إنك إن أعطيته منفذا أضيق مما يجب سيظل يصفر ليلا ونهارا وسيصيبك بالجنون. لا أريد أن أحدثك عن الانفجار. ومن هنا فإن الديكتاتورية هى الخطوة التالية حتما لعدم النزاهة السياسية. أقول حتما، وأعنى حتما. ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء ليست أكثر من بروفات سريعة لما سيحدث. سكتم عنها يا «إخوان» (كرامازوف) تواطؤا، وقريبا لن تجدوا بدا من ممارستها بأيديكم. لا شك عندى فى ذلك. ليس لأنكم أشرار بطبيعتكم، بل لأنكم لا ديمقراطيون بطبيعتكم. الديكتاتورية محاولة لخنق قوانين الفيزياء المجتمعية. أما وقد حدث انفجار بالفعل فى الثورة، فإن من الحمق الفيزيائى أن تحاول لملمة ما يطير هنا وهناك وإعادته إلى الوعاء. وأن تحاول إقناع ما خرج عن الطوق بأن الوعاء الذى كانوا فيه هو المكان الأمثل، لو غيرنا بعض شروط بسيطة. هذا ما حاول الإخوان والمجلس العسكرى أن يفعلوه. كعكة فى الفيزياء، كعكة فى السياسة، يا بلداء. فى الفيزياء لا يكفيك إدراك وجود شىء، بل يلزمك أن تعرف جدواه، وآلية عمله. هذا ينطبق على الدقائق، فما بالك بالعظائم. هل تعرفون بالله عليكم جدوى البرلمان وغرضه؟ أن تجد كل القوى منافذ. إن أسرعت لكى تعاجل الآخرين ستفوز، لكن قوانين الفيزياء المجتمعية ستختل، وسندفع جميعا الثمن. إنكم يا أفاضل تخلقون جمهورية تخاريف وزيف. جمهورية بانتومايم. مجلس استشارى مدنى وظيفته تحريك شفاهه بما يفكر فيه العسكرى. حكومة «كاملة الصلاحيات» لا يكاد يشعر بها أحد. أتظنون أن الناس لا تدرك هذا؟ بالله عليكم إن الأطفال يدركون هذا حين يرونه فى السيرك. بلغة الفيزياء هذه قوى عبرتم عنها بقيم أضخم من قيمتها الحقيقية فى المعادلة. وستفشل الحسابات، وستفشل التجربة. فى الفيزياء كما فى السياسة، كل عامل، مهما ضؤل، يعبر عن نفسه. ولو كان فراشة تضرب بجناحيها إلى جوار جبل فى الصين. اعلموا هذا لكى تدركوا أن الوقت حان لكى تجربوا الشىء الوحيد الذى لم تجربوه – عملية سياسية غرضها أن تشمل الجميع، لا أن تقصيهم.