منذ أن بدأ الكاتب الشاب نجيب محفوظ الكتابة القصصية والروائية فى أواخر الثلاثينيات وعقد الأربعينيات، وكان ينشر قصصه فى مجلة الرواية، وهو مثير للنقد واختلاف وجهات النظر، وكتب فى إبداعه ناقدون من تيارات شتى، ومن اتجاهات متنوعة، ولم يوجد مبدع فى تلك الفترة أثار جدلا واختلافًا مثل نجيب محفوظ، ففى مرحلته الأولى فى عقد الأربعينيات كتب سيد قطب ووديع فلسطين وأنور المعداوى وغيرهم، وكان محفوظ نفسه قد شارك بقسط كبير فى كتابة المقالات منذ عام 1930، عندما نشر أول مقال له على سبيل الحصر فى أكتوبر عام 1930، فى مجلة «المجلة الجديدة»، والتى كان يملكها ويديرها أستاذه ومعلمه سلامة موسى، والذى ترك فيه أثرًا كبيرًا فى تفكيره وأدائه الثقافى والإبداعى عمومًا، وعبر عن ذلك بكل الطرق الممكنة، وكان عنوان هذا المقال «احتضار معتقدات وتولد معتقدات»، وكان محفوظ يدرس الفلسفة، فتجلّت دراسته وقراءاته ومعارفه فى مقالاته الكثيرة التى نشرها فى تلك الفترة، فكتب عن تطور الفلسفة إلى ما قبل سقراط، وعن فلسفة سقراط، وعن إفلاطون وفلسفته، وهكذا، وبعد أن بدأ ينشر إبداعه القصصى والروائى، وتعاقبت تنوعاته من التاريخى إلى الاجتماعى إلى الفلسفى، احتار النقاد الذين يريدون وضع نجيب محفوظ فى خانة ما من الخانات المذهبية والمدرسية، وكانت أبرز الأوصاف التى تعرض لها محفوظ، فى ما كتبه الدكتور عبد العظيم أنيس، عندما كتب عن روايته «القاهرة الجديدة»، ووصفه بأنه كاتب البرجوازية الصغيرة، واستنكر أنيس على نجيب محفوظ أنه يجعل الشخصيات المتواضعة اجتماعيًّا، تتحدث بلهجة غير لهجتها، وكان أنيس يريد من محفوظ أن يعبر عن العمال كما هم، ويتحدثون بالمستوى الذى يمارسونه بالفعل، ونشبت معركة آنذاك حول هذا التفسير لكتابات نجيب محفوظ، واختصار هذه الكتابات فى هذا المصطلح السياسى الذى يخنق الإبداع بشكل كبير، وكتب أنيس فى ما بعد، معلنا عن محبته لنجيب محفوظ، واحترامه لتجربته، وفى الحقيقة لم يكتب أنيس وحده من الكتاب الذين ينتمون للفكر الاشتراكى، بل أنشأ الناقد غالى شكرى أول كتاب كامل عن محفوظ، وهو «المنتمى فى أدب نجيب محفوظ»، وصدر فى مجلد ضخم عام 1964، ثم كتب إبراهيم فتحى كتابه الرائع «العالم الروائى عند نجيب محفوظ»، وهذا الكتاب كان محفوظ نفسه يشيد به، وبعمق التحليل الذى ينطوى عليه، وكتب محمود أمين العالم كتابًا كبيرًا وهو «تأملات فى عالم نجيب محفوظ»، وهكذا وهكذا، ومن بين هذه الكتابات التى لم تجمع فى كتاب، سلسلة مقالات كتبها الناقد أحمد عباس صالح فى جريدة «الجمهورية» تحت عنوان «طريق الفن إلى الاشتراكية»، وبدأت هذه السلسلة فى سبتمبر 1961، وبهذه المناسبة أريد أن أنوّه بأن عباس صالح هو الذى كتب سيناريو فيلم «الشحاذ» عن رواية نجيب محفوظ بالاسم نفسه، وكانت هناك علاقة عميقة تربط بين المبدع والناقد، وقد دارات حوارات كثيرة بين الاثنين، ونشرت بعض هذه الحوارات على صفحات مجلة «الكاتب» التى كان صالح يرأس تحريرها، وأبرز هذه الحوارات عندما كتب صالح عن أزمة فن الرواية، وردّ عليه محفوظ فى مقال تالٍ يقول فيه إن الأزمة لا تخصنا، ولكنها أزمة الرواية الأوروبية، وهذا الخروج الذى فعله نجيب محفوظ كان استثناءً على عادته، التى تتمثل فى التزامه الصمت دومًا، والعزوف عن دخول أى معارك صحفية. ونعود إلى سلسلة مقالات عباس صالح التى وصلت إلى الحلقة الخامسة فى 24 سبمبر 1961، وهناك تفسيرات تقول إن النقاد الذين كانوا ينتمون إلى تيار الواقعية الاشتراكية، كانوا يحاولون تصحيح وجهة النظر التى كانت مأخوذة عن محفوظ بالتفسيرات الخاطئة، وكأن هذه الكتابات النقدية تنطلق من منطقة اعتذار لنجيب محفوظ، أو أنها تصحيح خطأ وقع فيه الاشتراكيون فى يوم ما، ولذلك جاءت التفسيرات الطبقية التى تجعل نجيب محفوظ منتصرًا لقضايا العدل الاجتماعى الذى يتبناه الاشتراكيون، ونلاحظ أن عباس صالح يحاول تفسير إبداعات محفوظ بهذه الطريقة، فيكتب فى هذه الحلقة قائلا: «قصة (بداية ونهاية) تضع أسرة من الطبقة الوسطى الصغيرة فى مأزق، وهو مأزق من الممكن أن تقع فيه دائمًا بوفاة الأب قبل أن يتم أولاده تعليمهم، أمر متوقع وكثير الحدوث، إنما يترتب عليه العديد من الآثار»، ويسترسل صالح فى تفسير الرواية بهذا الشكل الاجتماعى، مبتعدا قليلا عن تفسير جماليات الكتابة التى تكمن فيها طليعية الكاتب من عدمها، ولكن الأهم فى ما كتبه صالح، واعتبره ردًّا واضحًا على منتقدى نجيب محفوظ، أنه فى الحلقة الرابعة من هذه السلسلة، استفاض فى توضيح فكرة الأدب الواقعى الملغومة والملتبسة عند كثير من النقاد، والذين اتهموا نجيب محفوظ بالتصوير الفوتوغرافى، فكتب موضحًا: «بعض الكتاب يظنون أن الواقعية هى تصوير الناس كما يبدون للنظر السطحى، وأن مجرد جمع عدد من الشخصيات فى حادثة ما، ورواية ما يَحدُث لهم، وما يقومون به، هو عين الواقعية، بل هناك بعض الكتاب الذين يقرؤون عن حادثة شاذة أو يسمعون قصة غريبة فيشرعون فورا بصياغتها فى لغة الأدب حتى إذا قوبلوا باستنكار قدموا الشواهد على أن هذه القصة أو الحادثة قد وقعت فى الحقيقة... ليست هذه الواقعية»، وينفى عباس صالح هذه الطريقة عند نجيب محفوظ، وفى هذا السياق يقول: «نجاح نجيب محفوظ الأدبى الذى تخطى حدود الإقليمية إلى العالم الخارجى له دلالته الكبرى، وهى أن فطرة الشعب العربى سليمة، وأن الأدب العظيم يظفر بالنجاح فى أشد البيئات وعورة، بل إنه لا يحتاج إلى وقت طويل كى يظفر بالاعتراف والتقدير»، هذا ما كتبه عباس صالح فى سياق دراسة طويلة تصلح كتابا جديدا قديما عن نجيب محفوظ. هامش وبهذه المناسبة كتب أحد المحررين فى جريدة عربية عن احتفالنا السنوى بنجيب محفوظ، هذا الاحتفال الذى يصل إلى حد التقديس، والمناسبات الوطنية، واستهجن هذا المحرر ذلك الاحتفال، وزعم أن نجيب محفوظ بهذه الاحتفالات اعتبره المصريون خارج حدود النقد، وطالب ذلك المحرر المصريين بالكف عن هذه الاحتفالات، وادعى أننا لا نستطيع أن نرى محفوظ بصفته الكاتب الذى تجاوزته الكتابة الحديثة، والنقاد إما غير قادرين على رؤية نجيب محفوظ فى سياق طبيعى، وإما أنه نوع من التابو الذى أصبح لا يمس، وردًّا على هذا المحرر، فنجيب محفوظ تعرض لحملات ظالمة فى حياته ورحيله، ويكفى أن إبداعه جعله هدفًا للاغتيال، وما هذه الادعاءات التى يفترى بها علينا وعلى محفوظ، إلا فضفضات غير صحيحة وغير منطقية، وأعتقد أن نجيب محفوظ ما زال يحتاج إلى احتفال كبير يليق به وبمسيرته وبإبداعه.