ذهبتُ ذات يوم إلى صحبة صوفية يرافقنى صديق مسيحى. كنت وقتها فى الجامعة، وكنا نبحث عن إجابات لأسئلة من نوعية «هل الإنسان مُخَيَّر أم مُسَيَّر؟»، ولماذا نحن موجودون على تلك الأرض؟ هل هناك هدف لوجودنا؟ كنا نتأرجح بين الأفكار الوجودية لجان بول سارتر وألبير كامو من ناحية، والأفكار التقليدية التى شببنا عليها فى مجتمعنا، وكانت هذه الفترة «ربما بسبب انفصال المجتمع عن القرار السياسى» فترة عدمية لكثيرين من جيلى، حيث الحياة مربوطة بالاحتياجات المباشرة والتطلعات تشبه الأفلام الأبيض والأسود! لم تكن الفوارق المجتمعية الهائلة قد ظهرت بعد، أو كانت فى بداياتها بعد اشتراك مصر فى عاصفة الصحراء وتدفق الاستثمارات بعد الحصول على قرض من صندوق النقد الدولى مشروط ببرنامج للخصخصة، ولم تكن آثار هذه التغييرات قد طفت على السطح بعد. كانت بداية التسعينيات حلما يكاد يكون ساذجا مليئا بالتساؤلات، التى كانت تعج بها الجامعة من نوعية «ما هويتنا؟ أنحن مصريون أولًا أم مسلمون أولًا أم عرب؟»، وكنا نمتلك رفاهية الوقت والليالى الطويلة التى يجتمع فيها الأصدقاء على مشارف القاهرة وسط الطبيعة نتبادل الآراء والنكات، ونضحك كثيرًا ملء شدقينا. منا مَن يتباهى بقوميته، ومنا مَن يعتز بمصريته أو يقدم دينه على وطنيته. لم يمكث أحد فى نفس الخانة إلا قليلًا. لم تكن التصنيفات موجودة رغم الاختلافات، ولم تكن الاختلافات وازعًا للخلاف! كنا نمضى أوقاتا كثيرة تتجه أنظارنا إلى النجوم المنتشرة فى سماء الريف أو فى سماء سيناء، بعد أن نرحل إلى الأرض المقدسة، مكدسين ستة أفراد داخل سيارة صغيرة أو داخل سوبر جيت، ونتسابق عند الوصول إلى الكامبات للاتصال بالأهل لطمأنتهم. كانت سيناء اكتشافًا لهذا الجيل. خليج نعمة بمعسكرين فقط على طرفيه، أحدهما تسلمناه من إسرائيل بعد جلائها عن سيناء، أما باقى الأرض فكانت بكرًا، كلها لنا نستكشفها، نعدو فيها ونتوقف لنستريح حيث نريد. من شرم الشيخ إلى دهب ذهابا وإيابا خلال إجازة نصف العام لمدة قد تصل إلى شهر أو حتى نستنفد مواردنا! أتذكر أننى أحسست براحة شديدة بعد حضورى الصحبة الأولى، وكان الشيخ أستاذا للفلسفة عندنا فى الجامعة. بالطبع لم تكن جلسة فقهية، لكنه تحدث عن العطاء، وأعطى مثالًا بحديث عن عائشة -رضى الله عنها- تروى فيه أنهم ذبحوا شاة، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: ما بقى منها؟ فقالت له عائشة: ما بقى منها إلا كتفها «أى أنهم ذبحوا الشاة ووزعوها للمحتاجين ولم تبق منها إلا الكتف»، فقال صلى الله عليه وسلم: بقى كلها غير كتفها «أى الذى تصدق به للفقراء مدخر عند الله، فهذا الذى بقى عند الله». مغزى الحديث كما أفهمه الآن مرتبط بمفهوم التجرد عند الصوفية أو ترك ما تحب من أجل ما لا تحبه نفسك.. والمثال هنا اقتصر على الطعام، لكنه يشمل كل ما تحب النفس، ويقف عائقا بين الإنسان وغايته فى الوجود، وهى الفناء فى الله. تأملنا ذلك وقتها بارتياح، لكننى عندما وصلت بيتى «وكان المرور مزدحمًا، وبعض الناس يتبادلون السباب» رأيت أن هذا الكلام جميل، لكنه لا ينطبق على واقعنا، وأن التسامح فى هذه الظروف مستحيل! كان ذلك منذ عشرين سنة، كان المرور وأخلاقيات الشارع إن قارنّاها باليوم ستبدو كسويسرا! الصعاب تزداد ولا تقل. أما الأزمنة فهى نسبية يمكن قياسها، لكن التغييرات التى تطرأ على النفس فهى غير قابلة للقياس. كذلك قدرتنا على رؤية الجمال من حولنا وسط القبح المتزايد تتغير مع تغير قدرتنا على الحب. ربما كانت قدرتنا على الحب أكثر وقتها وعلى تقبل الآخر، لا أتحدث عنى وأصدقائى فقط، بل المجتمع كله بعائلاته التى كانت تجتمع مرة فى الأسبوع على الأقل حول حديث عام بسيط أو حتى فيلم لإسماعيل ياسين! كان الحلم جميلًا، لأن المجتمع كان ذا بُعد واحد، كذلك نظرتنا إلى ما حولنا، ثم أخذ الفيلم الأبيض والأسود يتحول تدريجيا إلى فيلم مقاولات ملون تظهر فيه المساحيق الزائدة على وجوه الممثلين، كما هى، والتراب الذى يحيط بنا كما هو.. ثم أن الوقت لم يسعفنا لنتجرد كما يجب أن يكون.