ليس برنامجا انتخابيا أو اقتصاديا أو تنمويا، لكنه وبصراحة برنامج البرنامج «أهلا بكم فى بغنامج البغنامج هيييييه»! أعترف بأننى أفتقد جدا الدكتور باسم يوسف وزملاءه ألفونس ومنصور وجارحى وأيمن والشاذلى، وما كان يقدمه من فن شبابنا الجميل بأشكاله وأنواعه فى الجزء الأخير من كل حلقة. انتهاء البرنامج برغبة سامية أو لضغوط أو كراهية أو أيًّا كان السبب يضع أمامى رسائل محددة، أولاها هو أنه كان لدينا بالأمس هامش أعلى من حرية التعبير واليوم فقدناه، ثانيتها أن حكامنا لعلهم ليسوا على ثقة كافية بالنفس تؤهلهم لتحمل هذا المستوى من حرية التعبير أو أن يكونوا على مستوى التحدى الذى تفرضه الديمقراطية، الثالثة أننا كمجتمعات لدينا فهم مجتزأ للديمقراطية، أسمِّيه أنا ديمقراطية الاتجاه الواحد mono democracy وهى الديمقراطية التى تمنحنا الحق فى انتقاد الآخرين، لكنها لا تعطى الآخرين بالضرورة حقا مماثلا فى انتقادنا. كثير من المثقفين والإعلاميين المشاهير الذين قضوا أعمارهم يتشدقون بالديمقراطية تبين عندما طالهم النقد أو انكشفت أخطاؤهم أو حتى نفاقهم أمام العالمين أنهم حقا لا يعرفون عنها شيئا وأنهم فقط يحاولون أن يظهروا أمام الناس بمظهر كاذب ملىء بأمارات بطولة الصوت العالى تغاير صورتهم الحقيقية، فإذا انكشفوا هاجوا كالوحوش وكالوا الاتهامات والشتائم والانفعالات المبالغ فيها. الرابعة أن عملية التعرية طالت عددًا لا يستهان به من القنوات الخاصة، والحق يقال إننا لم نكن فى حاجة لباسم يوسف لكى نذهل على مدار العام الماضى من أداء إعلامى حافل بنسبة محترمة من الكلام الفارغ والعك والتخلف العقلى والتى نزلت على أم رأس المصريين من كل اتجاه، وأصابتنى بالرعب مما يدور داخل الأدمغة إلى حد السخف الذى يتجاوز حتى تلك القنوات الدينية المأفونة التى أعفانا الزمان منها، مع انعدام كامل للإحساس بالمسؤولية فى التلاعب بوعى البسطاء وعقولهم لدرجة الإتلاف العمدى! لدرجة فضيحة أبلة فاهيتا المتهمة بالتخابر، التى أطنب فى شرحها العالم الجليل الدكتور أحمد سبايدر، والجهاز العبقرى الذى يحول الفيروسات بعون الله إلى كفتة! وفى الوقت الذى كان باسم يوسف يرفع رأسنا فى العالم وينال التقدير والجوائز، كانت فضائحنا العالمية تنهال كالمطر لدرجة خروج قناة «BBC» عن وقارها البريطانى التقليدى واستضافتها أبلة فاهيتا فى برنامج جاد مثل hard talk فقط لكى يسخروا منا! ثم تطور الأداء إلى موضة الصراخ والعويل والندب، وهى الظاهرة التى افتتحها عمرو أديب إبان حادثة القطار الذى صدم أوتوبيس الأطفال وكانت مجزرة، نعم كان عمرو أديب محقا تماما آنذاك فى صراخه، وصادقا كأنه كان يصرخ نيابة عنا جميعا، لكن كعادة المصريين فى كل شىء، ما إن تنجح ظاهرة حتى يسرع الكل إلى استنساخها على نحو لا نهائى ممل ليتحول الإعلام الخاص إلى مندبة هائلة بمناسبة وبدون! وفى الوقت الذى يتباكى فيه هؤلاء على الخروج اللفظى الذى حفل به برنامج باسم يوسف بحجة حماية الأخلاق، إلا أن الحق أن البرنامج كشف عن سقوط أخلاقى مدوٍّ أعمق وأشد بكثير يتجاوز مجرد التلاعب بالكلمات الذى يمارسه المصريون على أرض الواقع فى كل لحظة من حياتهم فى ازدواجية الشىء وعكسه والمواقف المتلونة المتغيرة، وازدواجية ثانية تجعل من عبد الرحيم على بطلا، لأنه ينتهك حرمة الحياة الخاصة التى حماها الدستور فى سقطة تجسسية أخلاقية مريرة حظيت بمباركة رسمية مهما حاولت أن تتوارى أو تخجل من الكشف عن نفسها، بل وبمباركة مجتمعية أيضا ولسان حالنا يقول «خليه يفضحهم» ثم نعود لنصلب البرنامج الذى كان يأخذ من أقوال الناس التى يتشدقون بها علنًا على شاشات التليفزيون فإذا بالأول ينام فى بيته هانئا مطمئنا بطلا، بينما يقع الثانى ضحية للغضب الشديد والحصار والتهديد بالضرب والسحق، بل والملاحقة القانونية، وأيضا وللمرة الثانية، بمباركة رسمية تحاول أن تتوارى أو تخجل من الكشف عن نفسها، لأن هناك من يكرهون الحقيقة، حقيقتهم، ولا يحبون الرأى الآخر ويريدون أن يحافظوا على سبوبة مغموسة فى الزيف والأونطة وما تأتى به من مكاسب آخذين راحتهم على الآخر، وهم مطمئنون أنه لن يعريهم أحد، ومن يحاول أن يقول الحقيقة فنهاره أسود والحجة جاهزة.. حماية الأخلاق! السؤال، كيف يكون الحال إذا تكرر هذا السلوك مع كل نموذج ناجح فى مصر؟ كيف يمكن لبلد أن ترصد الفساد وتكشفه وقت أن كان التيار الغالب فى إعلامها يروج لصوت واحد؟ كيف نتقدم بغير إعلام جرىء حر؟ بل دعنا من ذلك كله، فما أشد احتياجنا فى هذه الأيام الصعبة إلى مجرد ضحكة من القلب فى نهاية كل أسبوع وفى قلب زمان استشرت فيه الهرتلة والتنكيت الهايف والطبل البلدى وعزت فيه ضحكة حقيقية من القلب، ضحكة كانت عندنا ولكننا فقدناها، فقدناها لأننا ببساطة لا نستحقها!