«.. ولماذا يتفوق ابن عامل النظافة إذا كانت مهنة والده تمنعه من الالتحاق بسلك القضاء؟!».. قالها المستشار أحمد عبد الرحمن، نائب رئيس محكمة النقض، وبرر ذلك بحساسية منصب القاضى! لكن.. لم يشرح المستشار ما الحساسية التى تصيب القاضى لو كان والده عامل نظافة؟ هل لن يفهم (مثلا) فى نصوص القانون، أم سيحكم بالظلم؟ أم يخشى سيادته من أن يعايره متهم بمهنة أبيه «الشريفة»، التى لا يستطيع المجتمع الاستغناء عنها؟! الفقر أصبح جريمة يعاقب عليها المُبتَلى به، ومهمَا اجتهد بشرف من أجل الارتقاء بأسرته، سيظل عمله البسيط وصمة تطول أولاده، وتمنعهم من الوصول إلى الوظائف المميزة، وهكذا تمت المساواة بين من ارتكب جريمة «مخلة بالشرف» وعامل نظافة «يعمل بشرف»! فكلاهما لا يجوز أن يصبح ابنه وكيلا للنيابة! كلام المستشار عن حساسية منصب القاضى ينطبق على وظائف كثيرة، مثل ضابط الشرطة، وضابط الجيش، وأستاذ الجامعة، والطبيب، والمهندس، والصيدلى، والمدرس، والمحامى، بل ويصل الأمر إلى المواقع السياسية مثل الوزير، وعضو البرلمان، وأيضا وظائف الإدارة العليا مثل وكيل الوزارة، والمدير العام، ورئيس مجلس الإدارة، فكل وظيفة لها اعتبارها الخاص، وإذا تعاملنا بنفس المنطق «أن لكل مهنة حساسيتها»، فماذا يتبقى للفقراء؟! لقد أثير هذا الكلام بمناسبة استبعاد كل من لم يكن والده حاصلا على مؤهل عال من الالتحاق بالنيابة، إذ تم استبعاد 122 من الحاصلين على ليسانس الحقوق عامى «2010 - 2011» بتقدير «جيد جدا«، و«جيد» من كشوف المقبولين بعد أن أجروا كل الاختبارات، واللقاءات، وجاءت التحريات الأمنية فى صالحهم، لكن تم استبعادهم بعد أن وضع المجلس الأعلى للقضاء شرطًا جديدًا، هو حصول الأب على مؤهل عالٍ! وهكذا أصبح ابن الفلاح «حتى وإن امتلك عشرات الأفدنة»، وابن التاجر، والعامل، والحرفى، والموظف بمؤهل متوسط ممنوعًا من أن يصبح قاضيًا! لقد فتح الإعلامى حمدى رزق هذا الملف فى برنامج «نظرة»، وتمت مناقشته بعد ذلك فى عدة برامج أخرى، منها برنامج «لازم نفهم» للإعلامى مجدى الجلاد، الذى استضاف الأسبوع الماضى نائب رئيس محكمة النقض «صاحب التصريح الغريب»، ورغم تناول القضية إعلاميًّا، فإن أحدًا من المجلس الأعلى للقضاء لم يشرح ما الحكمة من هذا الشرط، الذى لم يكن موجودا من قبل، ولم يمنع عدم وجوده من وجود قضاة عظام لم يكن آباؤهم من الحاصلين على مؤهل عالٍ، ولو طبق هذا الشرط منذ بدء العمل القضائى فى مصر لانحسرت هذه الوظيفة فى فئة بعينها دون غيرها. وإذا كان عدم حصول الأب على مؤهل عالٍ يؤثر فى سير العدالة، فلماذا لا يتم تطبيقه بأثر رجعى وإبعاد كل القضاة والمستشارين، الذين لم يحصل آباؤهم على مؤهل عالٍ، حرصا على العدالة! لقد كانت العدالة الاجتماعية واحدة من شعارات ومطالب ثورتى 25 يناير و30 يونيو، وأكد الدستور الذى وافق عليه 25 مليون مواطن مصرى هذا المبدأ، وأن كل المواطنين سواء، وأن الفرص متاحة للجميع دون تفرقة بسبب الجنس أو الدين أو الوضع الاجتماعى، فنصت المادة الثامنة على: «تلتزم الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية»، وفى المادة التاسعة: «تلتزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين دون تمييز»، وتنص المادة الرابعة عشرة على: «الوظائف العامة حق للمواطنين على أساس الكفاءة ودون محاباة أو وساطة». وتنص المادة 53 على: «المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعى، أو الانتماء السياسى، أو الجغرافى، أو لأى سبب آخر، والتمييز والحض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون». هذه هى نصوص الدستور التى تحكم القوانين، التى لا يجوز مخالفتها، فلماذا يتجاهلها المجلس الأعلى للقضاء رغم أنه إحدى الجهات القائمة على حماية الدستور؟! لقد خالف المجلس كل النصوص السابقة، وقام بالتمييز بين المواطنين على أساس الوضع الاجتماعى! ولا أدرى لماذا لم يعترض أعضاء المجلس على هذه النصوص إذا كانت تتعارض مع حساسية منصب القاضى؟! أتمنى أن يراجع المجلس، وهيئته الموقرة التى نجلّها ونحترمها هذا الشرط، وأن يتم وضع قواعد عادلة للالتحاق بسلك النيابة والقضاء يكون معيارها الكفاءة والنزاهة والشرف والتفوق، وأن يبادر المجلس -ونحن لا نشك فى عدالته وحكمته- بإعادة الحق إلى أصحابه، وأن يطبقوا قواعد العدالة حتى لا يكونوا «قضاة ضد الدستور»!