1 الطيبون والأشرار خرجوا كلهم وراء نعش يوسف بك وهبى يودِّعونه إلى مثواه الأخير.. بين صفوف المشيعين تسانَد محمود المليجى على توفيق الدقن يهمس له: «الظاهر خلاص الدفعة مطلوبة، وباين الحكاية بالدور يا تيفة»، ويرد الدقن مجففًا دموعه: «كله على ودنه يا أبو حنفى»! ذلك المشهد رسمته على الورق سناء البيسى فى أحب كتبها إلى قلبى «سيرة الحبايب»، وروعة سناء أن رسمها يصف بدقة، ويحلل برقة، ويكشف الخفايا والخبايا، فهى ترسم بالكلمات تمامًا مثل زوجها الفنان منير كنعان، الذى كان يبدع فى رسم اللوحات، كلاهما يرسم، هى ترسم بالكلمات، وهو يرسم بالفرشاة. ما حدث بين منير وسناء يشبه حكايات ألف ليلة، فقد رأها للمرة الأولى حين كانت طالبة فى كلية الآداب قسم صحافة، ولم تكن قد تجاوزت السابعة عشرة من عمرها، لكنه التقط فى عينيها نورًا، ووهجًا، ورأى بداخلها جمالاً أراد أن يسجّله فى واحدة من لوحاته التى تتصدَّر غلاف مجلة «آخر ساعة»، ووافقت طائعة، وسارت معه منساقة مبهورة منوَّمة -على حد تعبيرها- وجلست أمامه موديلّاً يحتضن زهر المشمش، وأدمنت الجلوس أمامه ليرسمها، وكانت تمضى ساعات وهى تجلس فى وضع متحجِّر، تعانى جاهدة أن لا يهتز لها طرف أو ترعش عيناها أو تسند فقرات عمودها الفقرى المتيبّس لطول جلوسها على مقعد خشبى، لكن يهون التعب كله فى لحظات للحوار والوئام والتهافت والتراحم والحب والارتباط ورسائله الخاصة التى يدندن لها بها عندما يستغرقه الرسم: «ياللى نويت تشغلنى طاوعنى وابعد عنى.. إن حبيتك يبقى يا ويلك من حبِّى.. وراح أشغل فكرى وبالى عليك وأحبك وأفضل أعيش فى هواك لحد ما ييجى يوم وألاقيك آمنت بحبى وجيت برضاك». وذهبت إليه راضية مطمئنة، وتزوَّجا، وعاشا معًا، ليغدو تأثيره وآثاره حاضرة دومًا فى ما تقوم به، وما تنطق به، وما تنظر إليه، وما تنتقده، وما تفتقده، وما تسعى إليه، وما تتجنَّبه، وما تحبّه، لذا تقول عنه (فى حوارها المهم مع أمل سرور): «ألم يرسم على وجهى الابتسامة والغضبة وحمرة الخجل وتهويمة الشجن.. ألم يذقنى عصارة الكرز ورحيق الياقوت ويسافر بى فى حمرة الفجر والشفق وخدود الورد.. ألم يمنحنى هبة عمرى ابنى هشام». 2 لم يصنع فارق الثمانية عشر عامًا حاجزًا بين منير وسناء، فمنير ولد فى فبراير عام 1919، أما سناء فقد ولدت يوم الجمعة الأول من يناير عام 1937. حينذاك أعلن أحمد حسين عن حزب مصر الفتاة، وتم الانتهاء من تصوير فيلم «سلامة فى خير» لنجيب الريحانى، وعُرض فيلم «نشيد الأمل» بطولة أم كلثوم، وفيلم «ليلى بنت الصحراء»، لكن تم وقف عرضه لاعتراض الخارجية الإيرانية باعتباره يسىء إلى أحد الرموز الإيرانية. وقام رئيس الديوان الملكى ببث شائعة أن الوفد حزب يسيطر عليه الأقباط بقيادة مكرم عبيد، فأُقيلت وزارة الوفد! فى هذا التوقيت ولدت سيدة الكتابة سناء البيسى، وكان والدها يشغل منصب مدير مصلحة الآثار العربية، وكان أقرب الأصدقاء إليه حسن عبد الوهاب عالم الآثار الإسلامية، الذى قام بتحديث قبة الصخرة فى القدس، أما والدتها فكانت ترأس لجان الأوقاف الأهلية التى تنادى بحل الوقف على أساس الشرع، واستقبلها الرئيس عبد الناصر فى بيته بمنشية البكرى، ليُنصت لوجهة نظرها. حار والدها فى تسميتها، فسمّاها صديقه عالم الآثار الإسلامية الذى قام بتحديث قبة الصخرة فى القدس، «سناء»، لتحمل المجد والرفعة لأبيها ولعائلتها ولمصر بأسرها، وظلَّت الفتاة الصغير نهمة بحب المعرفة، فكانت لا تنام إلا وقد احتضنت كتابًا ينام على صدرها، فقد ورثت من أمّها نهم القراءة. وكانت أمنية والدها أن يراها يومًا مثل الدكتورة عائشة عبد الرحمن، بعدما لمس عشقها للورقة والقلم، لكن لم يكن هناك قسم لدراسة الصحافة فى كلية الآداب، فرأى والدها أن تغدو محامية لتستعين بمكتبته القانونية العامرة، وبالفعل قدَّمت أوراق نجاحها فى شهادة التوجيهية لكلية الحقوق جامعة عين شمس. وقبل دخول الكلية بأيام سمعت صوت صديقتها صافى ناز كاظم، ينطلق فى مدخل البيت الذى تسكنه فى حى العباسية، وتصرخ قائلة: «فتحوا قسمًا جديدًا للصحافة فى جامعة القاهرة»، فسارع والدها لينقل أوراقها من الحقوق إلى الآداب، تحقيقًا لرغبة ابنته. وذهبت سناء إلى قسم الصحافة بكلية الآداب بجامعة القاهرة، والتقت الأستاذ مصطفى أمين، وكتبت عن لقائه تقول: «حضر الأستاذ مصطفى أمين ليلقى علينا محاضرة لم أفهم معظمها، لأنه كان ينفث كلماته بين أنفاس سيجارته التى غرسها بين شفتيه فضاعت مع الدخان». وقرأ العملاق مصطفى أمين ما كتبت، فقرر أن تعمل فى «أخبار اليوم»، وتدرَّجت داخل هذه المؤسسة التى صنعت أساطير الصحافة، ثم انتقلت إلى «الأهرام» لتلتقى بنت الشاطئ، وتصير صديقة لها، وقريبة إلى قلبها -بل صارت الدكتورة عائشة تمدح كتاباتها- لتحقِّق سناء حلم أبيها! 3 تأثَّرت بها كثيرًا، وعجزت عن الكتابة عنها طويلاً، وشعرت أنها لم تحصل على ما تستحق مقارنة بعطائها غير المحدود للصحافة، وأشعر دائمًا أنى مدين لها، وأنها أستاذتى حتى لو لم نلتقِ يومًا، ولم تنشأ بيننا أى علاقة. وربما من أسباب أنى عجزت طويلاً عن الكتابة عنها هو أن المبدع عمر طاهر كتب عنها فأوجز كل ما يُقال، وأغلق -كعادته- الباب خلفه على مَن يأتى بعده. لكن الكتابة كلها لا تعطى سيدة الكتابة حقّها، فقد صنعت من مجلات المرأة شيئًا يجب دراسته، وتدريسه، وتعميمه، وخلقت فرعًا جديدًا فى الصحافة قبلها كان هامشًا، وهامشيًّا، ومعها صار مهمًّا، ومركزيًّا، وبعدها خرج الجميع من عباءتها. فحين شرعت سناء البيسى فى إصدار مجلة «نصف الدنيا» فى فبراير 1990، طلب منها ثلاثة من جبابرة الكتابة أن تحجز لهم صفحات أسبوعية يكتبون فيها. الأول هو الأستاذ أحمد بهاء الدين، أما الثانى فهو العم نجيب محفوظ الذى قرر أن يمنحها كل ما يجود به قلمه، ليكون حكرًا لها وحدها، فخرجت على صفحات «نصف الدنيا» أصداء سيرته الذاتية. أما الثالث فهو العملاق يوسف إدريس الذى طلب منها أن تحجز له الصفحة الأخيرة، ليكتب فيها مذكراته، وقال لها يومها: «سأكتب لأول مرة قصة حياتى الحقيقية من بداية مولدى طفلاً فى قرية البيروم، سأكتب أخطر أعمالى الأدبية التى فيها تعرية للنفس والتاريخ والأصل والنسب والأسباب والمسببات ودور الأم والأخت والجدة وأصل المعرفة». وبدأ إدريس يكتب فصلاً وآخر وآخر، ويواصل اعترافاته بجرأة لم يصدقها أحد، فقد كانت عبارات الأديب الجرىء تتجوَّل بحرية جامحة، وظل يكتب أحداث حياته وفجأة وجدت صوته يعتذر عن عدم التكملة، وحاولت سناء أن تثنيه عن قراره الانقطاع عن الكتابة لكن دون جدوى، ولم يكتمل هذا العمل الأدبى الذى حمل عنوان «ملكة» الذى كان يعتبره إدريس الأهم فى حياته. ما حققته سناء البيسى فى مجلة «نصف الدنيا» كان بالدنيا كلها، فلا يمكن أن يدَّعى أحد أنه آتٍ بما لم تأتِ به سناء البيسى، فقد صنعت كل شىء، ما يخطر ببالك، وما سيخطر فى بال الأجيال القادمة. فقد كان القارئ يبحث عن هذه المجلة المتخصصة فى شؤون المرأة رغم أنها كانت الأعلى سعرًا، لكنها كانت الأغنى فنًّا فى السوق الصحفية، لذا كانت تنفد عن آخرها، على الرغم من أن سعر المجلة -بالهدية- كان خمسة عشر جنيهًا، لكنها كانت رائدة فن المرتجع صفر! وهو فن لو تعلمون عظيم!