عصر الثورة شاءت إرادة العزيز الحكيم أن نتذوق معانى وخبرات إنسانية جديدة فى عصر الثورة هذا، إذ شاهدنا أحداثا جساما، قد لا تتكرر فى تاريخ الشعوب عبر قرون من الزمن، كما تابعنا تغيرات كبرى فى سلوك الناس كأفراد يعيشون فى تجربة ثورية جديدة عليهم، وكذلك الحال داخل مجتمع كبير أخذ ينقلب رأسًا على عقب! وتاريخ الثورات فى العالم يعلّمنا الكثير عن التغيرات الكبرى فى حياة الشعوب، فى أثناء مراحل الثورات الشعبية، وهذه الفترات عادة ما تكون طويلة وممتدة، فالثورة حدث لا ينتهى فى عام، ولا فى أعوام قليلة، ولكنه أمر جلل، تستمر توابعه وموجاته الثورية بطريقة متتالية، ويستمر التفاعل الثورى داخل المجتمع على مدى سنوات طويلة. وإذا كنا، ولله الحمد، لم نستخدم أسلوب «المقصلة» فى التعامل مع «أعداء الشعب»، مثلما حدث فى «الثورة الفرنسية»، إلا أننا، فى الحقيقة، استخدمنا «قضاءنا الشامخ» بطريقة مشابهة، ولتنظر إلى من دخلوا إلى السجون والمعتقلات فى زمن الثورة، ثم انظر إلى من خرجوا منها، ولك أن تتساءل: لماذا لم يدخل كثير من الفاسدين والمجرمين واللصوص السجون؟! ولماذا دخل بعض الفاسدين فقط دون غيرهم؟! ثم تسأل: طيب، ولماذا خرجوا منها؟! وبعد ذلك انظر إلى أكبر عدد من أحكام «الإعدام» التى صدرت فى تاريخ مصر كله، ستجدها صدرت فى زمن الثورة، لكنها لم تصدر فى حق مَن قامت ثورة يناير عليهم، وإنما صدرت ضد من شاركوا فى الثورة، أو كانوا محبوسين فى السجون والمعتقلات قبلها! فثمة قضاة أصدروا أحكاما بالإعدام على المئات من البشر فى جلسة أو جلستين، وهذا لم يحدث فى أى محكمة أخرى فى العالم كله! كما لم يحدث فى تاريخ القضاء المصرى، قط، أنْ حوَّل قاضٍ أوراق محكوم عليهم بالإعدام إلى فضيلة المفتى، فإذا بالمفتى يعيدها إلى محكمة الجنايات، رافضا التصديق عليها، وإذا بالقاضى يعيد تحويلها إلى المفتى مرة أخرى، فيرفض المفتى التصديق عليها للمرة الثانية، وهكذا! أما الأموال المنهوبة من ثروات شعبنا الفقير فقد تحدثنا عنها كثيرًا جدا، وفى النهاية لم يرجع شىء من هذه الأموال الطائلة إلى خزينة الدولة، وكثير من هؤلاء اللصوص الفُجار ما زالوا يتمتعون بأموالنا المنهوبة أمام أعيننا، أو خارج حدود الوطن! فكيف وصلنا إلى ما نحن فيه من تخبط وعبث وعشوائية؟! لعل البداية ترجع إلى حاكم مستبد ظل جالسا على العرش لمدة ثلاثين سنة، ففسد تماما، وأصبح غائبا وبعيدًا عن الناس جدا، ثم ترك البلد كله لزوجته المتسلطة وابنيه المدللين، لكى يصنعوا فيها ما يشاؤون، ومن ثم فقد قرروا أن يتوِّجوا ابنه حاكما على عرش مصر! وملايين المصريين كانوا يرفضون ما يحدث فى البلد، من استبداد وفساد وتوريث، لكنهم لا يدركون حقيقة قوتهم، وقدرتهم على خلع هذا الفرعون (العجوز)! لذلك كانت ثورتنا فى يناير معجزة إلهية، لمن يستوعب عقله المعجزات، ومفاجأة حقيقية لنا جميعا، حتى من كانوا يمهدون الأرض، منذ سنوات، لهذه الثورة المجيدة، فوجئوا بروعة ما حدث فى يناير بعفوية وتلقائية وربانية مدهشة حقا. وعلينا أن نتأمل فى مفارقات كثيرة، حدثت فى زمن الثورة، منها، على سبيل المثال لا الحصر، أن جموعا كثيرة من المصريين كانوا يُضحون بأنفسهم من أجل: «العيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية»، وفى ذات الوقت، كانت جموع كثيرة أخرى، تعمل بأقصى جهدها لكى تبنى ما تشاء من مبانٍ فوق الأراضى الزراعية، فى غياب أجهزة الحكم والشرطة! أما تعاملات الناس فى ميدان التحرير، فى زمن الثورة، فكانت تتسم بالنبل والكرم، والتعاون والإيثار، وقد انتقلت هذه الأريحية إلى نفوس كثير من الناس فى مصر، مع شعور عام بأن بلدنا سيدخل عصرًا جديدًا من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، خصوصًا بعد تحقيق الانتصار وسقوط الديكتاتور، لكن مع مرور الزمن وتخبط المجلس العسكرى الحاكم وبيان جهله بشؤون الحكم، شعرت الجماهير بخيبة الأمل وتغير سلوك الناس، مع دبيب اليأس فى نفوسهم من إمكانية رؤية النتائج الإيجابية للثورة على حياتهم اليومية، وإحساسهم بأن تضحياتهم الكبيرة أصبحت عُرضة للضياع، كأن ثورة لم تقم! ومن ثم تغيرت أخلاق الناس وظهر العنف بوضوح فى تعاملات المواطنين اليومية، وهكذا تبدل حال المجتمع، بعدما شعرت الجماهير أنه لا أمل فى الإصلاح، ولا سيادة للقانون، ولا وجود للعدل على أرض المحروسة. وإذا كان شعبنا قد انقسم أيام الثورة، بين الطليعة الثورية، والخائفين من الثورة، إلا أن هذا الانقسام كان سلميا، أما الاقتتال فكان بين الأحرار المناضلين فى الشوارع والميادين من جهة، والأمن والبلطجية من جهة أخرى! وهكذا ظهر دور «البلطجية» فى حياتنا اليومية، وفى حياتنا السياسية أيضا، ومن ثم أصبحت «البلطجة» أسلوب حياة، وطريقة لأخذ الحقوق، والدفاع عن المصالح، وقهر الآخرين! وبعد أن تخلصنا من حكم «المجلس العسكرى»، وقعنا فى براثن حكم «الإخوان»، فوجدناهم أكثر جهلا وحماقة من «العسكر»! فهبّ الشعب فى موجة ثورية حقيقية، لكى يتخلص من استبداد متخلف يتمسح فى الدين الحنيف، ومن ثم سقط رئيس منتخب، انحاز إلى فصيل واحد على حساب الوطن، بيد أن شعبنا لم يحقق الانتصار بعد! إذ بعد سقوط «الإخوان» برز الانقسام الشعبى بطريقة عنيفة، فمن كانوا معًا كتفًا بكتف فى أيام الثورة، أصبحوا يقفون بعد 3/7 فى مواجهة بعضهم البعض! وإذا كنا نرفض منطق «البلطجة» الذى ساد البلد لفترة من الزمن، بسبب اختفاء الشرطة، وغياب دولة القانون، فإننا لا نقبل أن تعود الشرطة إلى سابق عهدها، قبل ثورة يناير من اعتقالات وتعذيب وانتهاكات لحقوق الإنسان وكرامته. إن ثورتنا المجيدة قد اندلعت فى يوم «عيد الشرطة» لتعلن احتجاج الشعب على ممارسات جهاز الشرطة القمعى، ومن ثم يجب أن لا يتصور أحد أن شعبنا سيقبل بعودة النظام القديم، إننا جميعا نريد الأمن والأمان، لكن لن نسمح بأن يتم ذلك على حساب الحريات العامة، كما لن يسمح شعبنا الأبىّ بعودة انتهاكات كرامة المواطنين على يد رجال الداخلية. لقد تم إنهاك الشعب على مدى السنوات الماضية، إذ تحمل أعباء أزمة اقتصادية طاحنة، على أمل إصلاح الحال والقضاء على الفساد المستشرى، كما تقبّل شعبنا، بصفة مؤقتة، عودة القبضة الأمنية الغاشمة، لكن هذا كله لن يدوم طويلا، فشعبنا صبور جدا، لكنّ للصبر حدودًا، كما تقول الست أم كلثوم. عذرًا يا ابنى.. وعذرًا إلى هذا الجيل رحل عن عالمنا محام قدير صاحب تجربة ثرية فى الدفاع عن حقوق الفقراء والمظلومين، رحل رجل كبير جدير بكل التقدير والاحترام، لما قدمه لهذا الوطن من تضحيات كبرى، ولما فعله من أجل مظاليم المحروسة. وقد رحل عنا، وابنه وابنته موجودان فى السجن بتهمة «التظاهر»! فابنه علاء محكوم عليه بالسجن لمدة خمسة عشر عاما، مع غرامة قدرها مئة ألف جنيه، بسبب التظاهر أمام مجلس الشورى، وثمة تهم أخرى غير معقولة! بينما ابنته سناء أُلقى القبض عليها فى أثناء وجودها ضمن مظاهرة تطالب بوقف العمل ب«قانون التظاهر» الذى يخالف نصوص الدستور، ويسجن علاء وزملاءه! ومن المفارقات العجيبة أن من يحكمون البلد الآن يمنعون التظاهر بقانون فاسد، فى حين أن وجودهم على مقاعدهم الوثيرة، حدث بفضل مظاهرت الثوار الأحرار المحبوسين حاليا بسبب التظاهر السلمى! والآن ماذا ستفعل الدكتورة ليلى سويف صاحبة هذه الأسرة المناضلة؟ إنى لَعَلَى يقين من أن أسرته الصغيرة ستواصل الجهاد على نفس طريقه الصعب، وكذلك الأسرة الكبيرة التى خرج منها هذا المناضل الحقيقى، الذى أعطاها حياته، ستواصل هى أيضا الجهاد فى سبيل الوصول إلى مجتمع ديمقراطى يحافظ على حقوق الإنسان وكرامته. وها هى كلمات الراحل الكريم أحمد سيف الإسلام حمد عبد الفتاح، التى وجهها إلى ابنه، وإلى كل أبناء الوطن المجاهدين من أجل تحقيق أهداف ثورة يناير العظيمة: «من خلالكم أبعث برسالة إلى علاء ابنى وأقول له: عذرًا يا ابنى.. عذرًا لهذا الجيل.. كنا نحلم ونطمح أن نورّثكم مجتمعا ديمقراطيا يحافظ على كرامة الإنسان.. للأسف.. ورثّتك الزنازين اللى دخلتها.. فى 73 كنت فى سجن الاستئناف.. فى 2011 علاء كان فى سجن الاستئناف.. فى 83 كنت فى (ليمان طرة).. النهارده علاء فى (ليمان طرة). فى 72 لما اتفض اعتصام قاعة الاحتفالات الكبرى فى جامعة القاهرة.. ودّونا إلى (معهد أمناء الشرطة) ليتم فرز من تطلبه مباحث أمن الدولة ومن لا تريده مباحث أمن الدولة.. علاء قضيته تُنظر فى مبنى (معهد أمناء الشرطة). مُنى بنتى.. وُلدت وأنا فى السجن.. خالد ابن علاء.. وُلد وهو فى السجن.. هل جيلكم حيورّث أحفادى.. أبناءكم.. مجتمعا أفضل من اللى احنا ورثناهلكم؟! أرجو ذلك.. أرجو أن تنجحوا فى ما فشلنا فيه.. وعذرًا مرة أخرى.. لم نستطع أن نحقق لكم ما كنا نطمح إليه».