معندما زار المفكر والفيلسوف والأديب الفرنسى جان بول سارتر مصر فى مارس 1967، وكانت «الأهرام» قد وجهت له دعوة للقاء مع المثقفين والمفكرين والكتّاب المصريين، وللاطلاع على الوضع السياسى المحتدم بين مصر وإسرائيل، جذبته عدة ظواهر مصرية حقيقية وحيّة، من ضمن هذه الظواهر كانت تجربة فنان الكاريكاتير جورج البهجورى، فأبدى سارتر إعجابه الشديد بالوجوه التى رسمها جورج، لتشابهها -كما يكتب الفنان والناقد الراحل محمود بقشيش- مع وجوه الفيوم التاريخية، وكانت تمثل اللوحات التى شاهدها سارتر أطفالًا بعيون شديدة الاتساع والصراحة، والجدير بالذكر أن جورج ظل مخلصًا لوجوهه هذه طيلة رحلته الفنية، وتعتبر هذه الوجوه هى أحد جوانب عبقرية البهجورى، والتى كتبت له شهرة وتميزًا وخصوصية شديدة فى تجربته الفنية على المستوى المصرى والعربى والعالمى، ولم يتوقف البهجورى عند الرسوم المجردة وحسب، بل إنه كان يرسم الوجوه التى يقابلها دومًا فى حياته، وكان يكتب عنها فقرات أدبية مرموقة، فعل هذا مع تحية كاريوكا ومنى جبر ونجاة الصغيرة وعبد الوهاب وشكرى سرحان وصلاح عبد الصبور وفايزة أحمد وطه حسين وحسين فوزى وغيرهم، وأقام أكثر من معرض لأم كلثوم، وتتميز رسوم جورج دومًا بأنها وجوه ليست جانبية، ولكنه يرسمها فى المواجهة، حتى تبدو الملامح الداخلية والخارجية للشخصية، وكان نجيب محفوظ إحدى الشخصيات المتجذرة فى وجدان الفنان، فلا تعبر مدة زمنية طويلة حتى يتناوله فى بورتريه أو رسمة كاريكاتورية أو فقرة أدبية، وربما تكون اللوحة المعلقة فى قهى «ريش» هى إحدى أشهر اللوحات التى يعرفها الناس، كان هو نجيب دائمًا محل تقدير واحترام وشغب كذلك، وبعد هزيمة 1967 كان المثقفون والفنانون والكتّاب المصريون شديدى الانشغال بالحدث، وكان جورج يملأ مجلة «صباح الخير» برسوماته الساخرة والسائلة والموجعة والكاشفة لعورات وظواهر، وفى 31 أغسطس عام 1967 رسم عدة رسومات تحت عنوان «خواطر جورج»، أطلق خياله الفنى للتنويع على روايات نجيب محفوظ وعلاقتها بما حدث، وكانت اللوحة الأولى ترسم امرأة تقف أمام محل عوامات، وترتدى البيكينى، وهى تقول للبائع: «عاوزة عوّامة أصغر مقاس»، وهذه الرسمة تلقى بظلها على رواية «ثرثرة فوق النيل»، وربما لم يكن الخيط واضحًا تمامًا بين الرواية والرسمة، ولكن مفردات اللوحة كلها تشير إلى المشاكلة الواضحة للرواية، ثم تأتى رسمتان تتخذان من عنوان روايته «أولاد حارتنا» مجالًا للسخرية، الرسمة الأولى يقف شخص ما يرتدى ملابس تشبه ملابس البهلوان، ويمسك خيطًا فى يده، وحوله بعض أطفال تبدو عليهم ملامح البؤس، ويحرك الشخص البهلوانى الخيط القابض عليه بيده وهو يقول: «اوعى المرسيدس...يا وله..»، والإشارة واضحة إلى التغييب الذى كان يعيشه الناس فى هذه الفترة، حتى يختبئوا تحت خرافات من هذا النوع، أما اللوحة الأخرى، فهى ترسم أولاد مصر وهم يتساءلون وبينهم جريدة مفتوحة، وكتب على صفحاتها: «ماذا تريد منا أمريكا؟»، وهنا يتساءل أحد أولاد الحارة سؤالا وجوديًّا وسياسيًّا: «هى عاوزة إيه صحيح؟»، وتتنوع لوحات جورج دائما بين الأعمال الأدبية، وكان نجيب محفوظ دائمًا مجالا لشغب وحب جورج البهجورى، وبعد سقوط حكم الإخوان كانت رسوماته مجالا خصبًا للتعليق على الحدث بالريشة والكلمة، وفى حوار أجراه معه شريف عادل ل«المصرى اليوم» فى 26 نوفمبر 2013، يندهش جورج من الشعار الذى كان يرفعه مناصروه فى المظاهرات، ويقول هذا الشعار: «مرسى راجع.. راجع»، ويعلق جورج قائلا: «يرجع إزاى؟»، ويكتب المحرر: «هنا بهجورى يمسك بالقلم الفلوماستر، ليخط فى خط واحد، بورتريه (السجين يعظ)، فمٌ عريض، وأسنان أشبه بقضبان السجن.. بعدها أمسك بالفرشاة -كما يقول المحرر- واختار لونى الأزرق الغامق والبنفسجى الداكن، لأنهما يرمزان إلى الكراهية»، ويستطرد جورج مفضفضًا مع المحرر: «إننى أتعجب من حديثهم عن الحرية، وهم الذين أذاقوا الشعب مرارة الديكتاتورية والحكم الفاشى، مرسى عندما يقف الآن ليقدم للمحكمة أو لأهله وعشيرته النصيحة، هو أشبه برائعة نجيب محفوظ (الشيطان يعظ)»، ويظل نجيب محفوظ مصدرًا لإلهام جورج البهجورى فى رسوماته الكاريكاتورية وبورتريهاته، كما أن نجيب محفوظ يظل ملهمًا وحالة خصبة للتفاعل مع غالبية الفنانين، ففى مجلة «العربى» الكويتية كتب الشاعر أشرف أبو اليزيد تحقيقًا حول هذه الفكرة، ورصد وحلل لوحات جمال كامل وصلاح عنانى ومصطفى حسين وآخرين، ومن اللافت إلى النظر أن نجيب محفوظ عندما نشر روايته «بين القصرين» مسلسلة فى مجلة «الرسالة الجديدة» عام 1954، ونشرت الرواية وكانت تصاحبها لوحات رائعة للفنانين عبد المنعم القصاص والحسين فوزى وسميحة، وظل هذا التقليد مصاحبًا دوما لنشر أعمال نجيب محفوظ فى الصحف، وكان الفنانون المحظوظون هم الذين يرسمون نصوص نجيب محفوظ القصصية والروائية، أولًا لأن الفنان كان يجد نفسه أمام عالم ثرى وخصب ومشحون بالأحداث، وبالتالى فهو يعمل على تفجير طاقات وخيالات الفنان الكامنة، ثانيا فالفنان الذى يرسم نصوص نجيب محفوظ يشعر بالفخار لأن لوحاته تجاور نصوص هذا الكاتب العظيم، وكل ما كان المرء يتمناه من دور النشر التى تنشر أعمال نجيب محفوظ، أن تنشر كذلك الرسومات التى صاحبت هذه النصوص فى الصحف والمجلات.