يعيش قطاع غزة مشهدا عبثيا مأساويا فى صراع الإرادات الدائر بين طرفين، الأول تحكمه إرادة القمع والإبادة من خلال الآلة العسكرية الإسرائيلية الديناصورية العمياء، مقارنة بقدرات عناصر المقاومة الفلسطينية، والطرف الثانى الشعب الفلسطينى المفعم بروح الصمود، متغلبا باستبسال عنيد على كل أشكال العنف الإجرامى لتلك الآلة التى يمتلكها ويديريها سفاحون تسكنهم نوازع عنصرية، لا تقل فى جموح أصحابها نحو سفك الدماء عما كان يفعله الهمج فى ما قبل العصور الوسطى، وهذه هى الطبيعة الاستعمارية التى تغشى عيون المستعمرين الذين لا يأخذون العبرة دائما من درس التاريخ، حيث لا ينتصر مستعمر مهما طالت هيمنته، وهى أيضا الطبيعة العدوانية التى تتفاقم إلى حد التطهير العرقى أو إبادة السكان الأصليين، وتظهر جليا فى حالة الاستعمار الاستيطانى كما فى النموذج الإسرائيلى، وهنا تظهر الطبيعة الوجودية للدولة الصهيونية، بدءا من التمهيد لتأسيسها، وما تبع ذلك من دعم الإمبريالية العالمية لضمان استمرارها. بداية الدولة الإسرئيلية التى صنعت عنوة كانت من المستعمر الأوروبى الأكثر خبثا، الذى يتصف بدهاء ذى طبيعة منحطة، وأعنى الاستعمار البريطانى الذى استعبد الشعوب التى استعمرها ونهبها بفرض سياسات حولت أبناء هذه الشعوب إلى رهائن مستعبدين فى بلادهم، يضخّون المواد الخام إلى بريطانيا بأسعار بخسة، ويعاودون استهلاكها كمنتج مصنَّع بأسعار مرتفعة، وعمد هذا الاستعمار المحترف إلى العبث بالجغرافيا حتى يخلق المحن والصراعات داخل الكيانات التى استحدثها بتقسيمات متعسفة «لخبطت» الاستقرار التاريخى للأعراق والأديان والمذاهب، مما يساعد على تحقيق قدر كبير من السيطرة بمبدأ «فرّق تسُد»، ولقد أعطى البريطانيون من هذا المنطلق بوضاعة استعمارية رخصة غير مستحقة للصهاينة اليهود كى يؤسّسوا دولة على أشلاء الفلسطينيين، بعد وعد «بلفور» الذى أعطاه من لا يملك لمن لا يستحق، وطوال الثلاثة عقود التالية لهذا الوعد المشؤوم قدَّم الاستعمار البريطانى تسهيلات ومساعدات جمّة للمنظمة الصهيونية العالمية، كى تدفع باليهود إلى فلسطين التى كان تعداد اليهود فيها وقت إعطاء وعد «بلفور» يقل عن 4%، وما بين التغافل والدعم المباشر شاركت عدة دول أوروبية فى جريمة هذا المشروع الاستيطانى، وبذلك ولدت دولة لقيطة خادمة للإمبريالية العالمية وتوجهاتها. أما حماية إسرائيل وصيانة وجودها بتقديم الدعم المادى وصدّ تهديدات ومخاطر الشرعية الدولية عنها، فهذا هو الواجب الذى تتولاه منذ عقود الولاياتالمتحدةالأمريكية رائدة الاستعمار الاستيطانى الذى تجسّد نموذجه الأمثل، اعتبارا من الغزو الأوروبى بعد الرحلة الاستكشافية الأولى لكريستوفر كولومبوس، فجاء الاجتياح الأوروبى لقارتَى أمريكا دمويا ولا أخلاقيا، يفتقد إلى كل أشكال الرحمة أو الآدمية، ويفوق أشكال الافتراس التى تقوم بها الضوارى المتوحشة، هكذا عُومل السكان الأصليون الذين صاروا يعرفون بالهنود الحمر كى يبسط الاستعمار الأوروبى الاستيطانى نفوذه الكامل على أصحاب الأرض، ثم تحول هذا النفوذ إلى التخلص من أصحاب الأرض بإفنائهم وإبادتهم من الوجود، وفى مرحلة تالية تحقق البناء المادى للولايات المتحدةالأمريكية باستعباد عرق آخر من البشر هم الزنوج المختطفون من إفريقيا، وهكذا ما بين الإبادة والاستعباد أقام المستوطنون الأوروبيون هذه الدولة بموروث من العنف غير المسبوق على مدار التاريخ مفترش بشلالات من الدماء والأرواح المزهقة، لدرجة أن الفن لم يستطِع أن يفلت من الميراث التاريخى لنشأة الدولة التى لم تتورع امتدادا لنهج التأسيس عن محو هيروشيما وناجازاكى من الوجود، وهذا ما نضح من العقل الباطن على السينما الأمريكية منذ بدايتها حتى الآن بما تنتجه من أفلام مليئة بالعنف والدماء تزيد على كل إنتاجها من نوعية الأفلام الأخرى، وتزيد على كل ما ينتجه العالم من مثل هذه الأفلام. هذه هى إسرائيل صنيعة الإمبريالية العالمية وربيبتها منذ التمهيد لنشأتها إلى اليوم إسرائيل التى يتأسس منبتها واستمرارها بالمذابح منذ دير ياسين إلى تل الزعتر وقتل الأطفال والنساء والشيوخ العزل فى غزة الآن، وهنا يحدث التلاقى المنهجى فى مستويات الأداء والوعى بين إسرئيل وأمريكا، لما بينهما من عوامل مشتركة تسبق المصالح والغايات الآنية، هذه العوامل هى الطبيعة الوجودية للتكوين التاريخى، الذى صنع الدولة فى كل منهما، ويتأسس على إزاحة أمة من السكان الأصليين لإحلال عصابات من المستوطنين، وهذا التلاقى بين الدولتين أشبه فى مجال علم النفس بالجاذبية، التى تحدث بين المرضى النفسيين، الذين تجمعهم خلفية اختلال واحدة، لكن الأمر بالطبع يختلف فى طبيعة العلاقة بين واشنطن وتل أبيب، لأن المشترك هنا يتمثَّل فى الطبيعة الوجودية المترسبة عبر الزمن والمتجددة كلما استدعت الضرورة اعتمادا على منهج نفى الآخر وإفنائه وإبادته. لهذا تتحدَّث أمريكا ببجاحة عن إخلاء غزة من السلاح، ولا تتدخل لتنفيذ وقف فعلى لإطلاق النار وإنقاذ الضحايا الذين يتساقطون كل يوم من العزّل والأبرياء، وتناور الولاياتالمتحدة لإعطاء إسرائيل البراح كى تحاول تنفيذ مخططها المتداعى، الذى تساعدها عليه «حماس» إذا لم تستطع فى نهاية هذا المطاف الدموى تحقيق مكاسب سياسية ضد شرطى أمريكا الفاسد فى المنطقة.