منذ اليوم الأول لانقلاب يوليو الذى سرعان ما أصبح ثورة حقيقية، اهتم القائمون بهذه الثورة بالثقافة والمثقفين، بل إن كثيرا من الضباط الأحرار كانوا مثقفين، وكانوا مشغولين بالثقافة والصحافة، وعلى رأس هؤلاء كان ثروت محمود عكاشة (الدكتور ثروت عكاشة)، وكان يكتب فى مجلة «الجيش»، وكان له ترجمات عديدة، وكذلك الضابط أحمد حمروش، وخالد محيى الدين، ويوسف صديق الذى كان يكتب الشعر، وطبعا محمد أنور السادات الذى مارس التمثيل فى السجن، وقام بدور هارون الرشيد فى أثناء حبسه، وبعد خروجه من السجن كتب مذكرات السجن فى مجلة «المصور» عام 1948، وبشكل عام فكان هناك حركة ثقافية داخل صفوف الجيش عموما، وكان اللواء محمد نجيب نفسه مثقفا كبيرا، وكان قد صدر له كتاب عام 1943 عن ذكرياته فى السودان، هذا بالإضافة إلى الضابط الروائى يوسف السباعى، والضابط الشاعر مصطفى بهجت بدوى وغيرهم، وفور أن سيطر الضباط على مقاليد البلاد، وبدؤوا فى السيطرة على مؤسساتها، أفرجوا عن المحامى فتحى رضوان فى اليوم التالى مباشرة للثورة، ولم يكن فتحى رضوان مجرد معارض للإنجليز والنظام الملكى فحسب، بل كان كاتبا للقصة والمسرح، وكان قد كتب بضع دراسات فكرية لافتة قبل ذلك، ومجرد الاستعانة بشخص مثقف وأديب، ليكون الشخص المهم، الذى يشارك بدرجة كبيرة فى تشكيل واختيار أعضاء أول وزارة فى حكومة الثورة، التى ترأسها على ماهر، والتى بدأت عملها فى 24 يوليو، ثم وزارة محمد نجيب فى 7 أغسطس 1952، ثم مشاركته بقوة فى صياغة الشكل النهائى لأداء حكومات الثورة المتعاقبة، وكان أحد المصاحبين لجمال عبد الناصر طوال الوقت، وكان كتابه «72 شهرا مع جمال عبد الناصر»، بمثابة شهادة فى غاية الأهمية عن المراحل الأولى لثورة يوليو، وبعيدا عن ذلك سنلاحظ أن تقدير جمال عبد الناصر للثقافة والمثقفين كان لافتا، فمنذ أن بدأت حركة التطهير، وجاء اسم الكاتب توفيق الحكيم بين من شملتهم كشوف التطهير، حيث كان رئيسا لدار الكتب فى ذلك الوقت، وكان عبد الناصر يراجع هذه الكشوف بنفسه، فرفض ذلك بشدة، وعنّف من وضع اسمه فى تلك الكشوف، وكذلك عندما علم بأن الدكتور طه حسين يحتاج إلى مبلغ لإنجاز ترجمات أدبية فى الجامعة العربية، تم تخصيص مبلغ كبير لذلك المشروع للقيام بتلك المهمة، كذلك أنشأ جريدة الجمهورية، التى ضمت فى إهابها مجموعة من كبار المثقفين، والكتاب، وعلى رأسهم الدكتور طه حسين وعبد الرحمن الخميسى ومأمون الشناوى وأحمد عباس صالح وعبد الرحمن الشرقاوى وغيرهم، وبعد انهيار مجلتى «الرسالة» و«الثقافة»، صدرت مجلة «الرسالة الجديدة»، وقد ترأس تحريرها الضابط يوسف السباعى، عام 1954، وكانت هذه المجلة من أنجح التجارب المصرية فى ذلك الوقت فى الصحافة الثقافية، ونشرت رواية «بين القصرين» لنجيب محفوظ، وكتب فى هذه المجلة كتّاب من مختلف التيارات والاتجاهات الفكرية والسياسية، فكان من كتّابها محمود أمين العالم ونجيب سرور وطه حسين ومحمد مندور وتوفيق الحكيم وأنيس منصور ومحمد عبد الحليم عبدالله ومحمد الفيتورى وأحمد حسن الزيات وغيرهم، وظلت المجلة تصدر حتى نهاية عقد الخمسينيات، وكذلك صدرت مجلة «التحرير» فى أكتوبر 1952، وضمت مجلس محررين متميزين مثل كامل الشناوى وشقيقه مأمون ومصطفى بهجت بدوى وآخرين، ونشرت لكتاب كثيرين مثل مصطفى محمود ويوسف إدريس وصبرى موسى وبيرم التونسى، وفى أول عام 1956صدرت مجلة «صباح الخير»، ورغم أنها كانت تتبع مؤسسة خاصة، فإنها كانت تتنفس هذا الجو المدجج بالحماس، فقدمت ثقافة وفنا مختلفين، وفى أكتوبر من العام نفسه صدرت جريدة «المساء»، وترأس تحريرها خالد محيى الدين، وكان على رأس اهتمام الجريدة تقديم صفحة يومية ثقافية، وإذا تحدثنا عن إنجازات وزارة الإرشاد القومى، التى تغير مسماها إلى وزارة الثقافة والإرشاد القومى، فهى كثيرة، وأعتقد أننا نعيش حتى الآن على بعض هذه المنجزات، يكفى أن نذكر المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب الذى أصبح الآن المجلس الأعلى للثقافة، وكذلك دار الكتب الجديدة، التى تم إصدار قرار بإنشائها فى مطلع الستينيات على كورنيش النيل، وكان جمال عبد الناصر يتحدث عن أهمية دور المثقفين فى الحياة عموما، وقد نشرت جريدة «الأخبار» الصادرة صباح 2 أغسطس عام 1961 فقرة من خطاب عبد الناصر فى جامعة الإسكندرية تحت عنوان: «شهادة يعتز بها المثقفون» إذ قال جمال عبد الناصر: (إن المشكلة لم تكن أزمة مثقفين أبدا، المثقفين بيبنوا من أول يوم وبيشتغلوا من أول يوم، مشكلتنا كانت مشكلة طبقية.. موش أبدا مشكلة مثقفين، لأن اللى قادوا الرأى العام هم المثقفين، واللى قبل الثورة قادوا المظاهرات وقاتلوا الإنجليز هم المثقفين، واللى اشتغلوا هم المثقفين، الشعب أيّدها بكل جوارحه وكل روحه.. ولكن باقول مثلا مثقفين جامعة إسكندرية ماترددوش أنهم يؤيدوا الثورة لأ وفاروق كان موجود فى الإسكندرية والثورة كانت موجودة فى القاهرة، ده إن دل على شىء فيدل على الوحدة الوطنية الكاملة اللى تجمع أبناء الوطن الواحد.. وحدة المشاعر ووحدة العواطف ووحدة الآمال ووحدة الأمانى)، هذه هى كلمات عبد الناصر كما نشرت بالنص، ويبرز هنا سؤالان مهمان، الأول يتعلق بتعبيره أنه لا يوجد ما يسمى بأزمة مثقفين، وكان فى ذلك الوقت صدر كتاب شهير لمحمد حسنين هيكل عنوانه «أزمة المثقفين»، فهل كان عبد الناصر يعلن اختلافه مع هذا التوصيف، رغم أن هيكل كان أحد مهندسى البيت الناصرى من الداخل؟ وإن كان ذلك كذلك، فهذا يعنى أن هذا البيت كان يعانى من خلافات واضحة فى القيادة العليا، وينفى الزعم الدائم بأن حسنين هيكل هو الصائغ الأول لأفكار وخطابات جمال عبد الناصر، أما السؤال الثانى فيتعلق بأن عبد الناصر كان يحتفى بالمثقفين فى خطاباته، ولكن هناك عشرات منهم كانوا قابعين فى المعتقلات مثل محمود أمين العالم وصنع الله إبراهيم ولويس عوض وصلاح حافظ وفخر لبيب وفتحى عبد الفتاح وعبد العظيم أنيس وعبد الحكيم قاسم وفؤاد حداد ومحمد خليل قاسم وغيرهم، وهل هذا يعنى أن جمال عبد الناصر لم تكن أجهزته المخابراتية تدله على أهمية هؤلاء، أو أنه لا يعلم أن هؤلاء مثقفون؟