تعدّ مصر نمطا فريدا بين كل دول العالم، فى طبيعة القوى والتحالفات السياسية التى تتصدّر مَشاهد حياتنا، دون أن تعكس بالضرورة جدية تلك القوى، فى الانخراط الحقيقى فى الحياة السياسية، واختبار مدى قدرتها على تطوير بنى سياسية وإنضاج برامج حقيقية، يمكن تنزيلها فى الواقع، فالقوى السياسية تعمل بالسياسة كما لو أنها تجرى بروفات لمسرحية لم تبدأ فصولها بعد، يتوهَّم البعض حين يتابع بعض تلك البروفات أنه بصدد عمل حقيقى ليفاجأ فى النهاية أنه كان بصدد بروفة قد تتكرر عشرات المرات، دون أن يبدأ العمل المنتظر، وينشغل الإعلام بصكّ عناوين لتحالفات بعضها سياسى والآخر انتخابى، دون أن يكون لدينا بالفعل أى منهما، فلسنا بصدد أحزاب حقيقية لها تنظيمات سياسية محكمة، أو لجان نوعية أو حكومات ظل، فالأمر لا يعدو فى الغالب سوى هيئة عليا تضمّ بضع عشرات من الباحثين عن صفة يضمونها إلى بطاقات تعريفهم، وعدد أقل تتفوق رغبته فى التحدث للإعلام عن رغبته وربما قدرته على العمل السياسى، استثناءً من ذلك نجد أن من لديهم الرغبة والقدرة على العمل السياسى يفتقدون الصبر على معالجة الأعضاء والقيادات، وتوفير نمط صحيح من العلاقات الإنسانية والقدرة على التواصل بين الأعضاء، بما يصنع البيئة المناسبة للعمل التنظيمى بما يفرضه من انضباط والتزام تنظيمى، تتفوق فيه الأحزاب الدينية فى الغالب التى تضمّ عددا أكبر من الجنود فى مقابل عدد محدود من القيادات، مقابل الأحزاب المدنية التى تعانى من وفرة فى القيادات مقابل ندرة شديدة فى القواعد أو الأعضاء، هذا الوضع جعل الصيغة الوحيدة التى تصمد للخلافات التنظيمية وتنجح فى التجنيد والتعبئة وبالطبع التنشئة، وإن كانت على أساس دينى، هى الأحزاب الدينية، حيث أكدت التجربة أنها أكثر نجاحا فى توفير التماسك التنظيمى، وإن كان يجرى وفق مبدأ السمع والطاعة على طريقة حزب الإخوان، وبدرجات أقل فى حزب النور، هذا عن مشكلة التماسك التنظيمى، إضافة إلى غياب الناظم الفكرى أو المكوّن الأيديولوجى الذى تفتقر إليه تلك الأحزاب التى تنشأ فى الغالب اعتمادا على كاريزما زعيم أو مجموعة أصدقاء تفرّقهم السياسة فى أول محك، فلم نعد بصدد أحزاب عقائدية تمثّل تيارات الأمة الرئيسية كاليسار والقومى والإسلامى والليبرالى، بعدما تميّعت تلك الأيديولوجيات فى نفوس كثيرين، بحيث يمكننا الادّعاء بوجود يساريين مثلا دون أن يكون هناك تيار يسارى، وكذلك باقى القوى بما يفرض أن يكون هناك أساس آخر غير الأساس الأيديولوجى فى تكوين الأحزاب ونشأتها، بحيث تنشأ استجابة لتطلعات المجتمع دون الوقوع فى فخ ترجمة تطلعات فئات أو قوى اجتماعية على حساب أخرى، أو على حساب أنماط عشوائية فى التخطيط لتنمية هذا المجتمع، باستعادة الوحدة بين مكوناته وليس تكريس التباين فى الأحلام والتطلعات، نريد أحزابا أيا كانت انحيازاتها الفكرية هى حرة فيها، لكن انحيازاتها السياسية يجب أن تبقى للشرائح الأوسع فى هذا المجتمع، بما يتيح منافسة تسعى لتوفير الحد اللائق بحياة مواطنى هذا البلد المنهك. إن محاولة التوفيق والتحالف بين أخلاط السياسة المصرية المسمّى زورا وبهتانا بالقوى السياسية، محاولة فاشلة للمزج بين الزيت والماء. لو كنت مكان صانع القرار وتمتعت بالحد الأدنى من الرشد والنظر الاستراتيجى لقُمت على الفور بحل كل الأحزاب المصرية، وتركت لها ستة أشهر تعيد تأسيس نفسها على أساس صحيح، يتجاوز الحفاظ على ديكور سياسى لدولة قديمة عجوز، غير قادرة على الحركة تصلَّبت شرايينها السياسية مع شرايين قياداتها المسنّة. هذه الدولة شابت وتحتاج إلى أن تجدد شبابها بتجديد السياسة بقوى جديدة، أصدق تعبيرا عن مصر الجديدة التى لم تولد بعدُ. وبالتوازى مع ذلك يجب تأجيل الانتخابات البرلمانية، وتغيير قانون مباشرة الحياة السياسية الذى ينبغى أن يشترط أن تجرى الانتخابات البرلمانية، بحيث يكون نصف المقاعد بالقوائم الحزبية والنصف الآخر فرديا، حتى انتخاب أول برلمان ينظر فى تعديل هذا التشريع، أو إبقائه حسب رغبة نواب الشعب وإرادتهم. هذا إذا كنا جادين بالفعل فى إصلاح التشوه فى البنيان السياسى المصرى، أو داء السياسة فى مصر الذى هو أساس كل تشوه اقتصادى واجتماعى حاصل فى هذا البلد، أما إذا استمرت تلك العشوائية المغرضة التى تحاول إقناعنا بوجود قوى سياسية متنافسة، فهى خداع لم يعد ينطلى على أحد، ومخاطرة بالمستقبل وصناعة عشوائية جديدة، ستلتحم بجبال العشوائيات فى هذا البلد لتصنع مسارا لفوضى مرعبة لن تُبقى حجرا على حجر فى هذا البلد.