فى عقدى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، اللذين يمكن نعتهما بزمن ثورة 23 يوليو، طرأت على خريطة عادات رمضان أشكال جديدة فى البعد الاحتفالى لهذا الشهر، لكن هل من الممكن أن يعزى هذا التطور إلى ثورة يوليو ذاتها أم أنه من التعسف إسباغ كل الفضل عليها؟ الواقع فى هذه الرؤية الخلافية التى تتعلق بأمور كثيرة فى منحنى التقدم والتغيير فى زمن يوليو تتمحور حقيقته الموضوعية، بينما أرى فى أن الحقبة الليبرالية السابقة للثورة كانت مناخا أسس عميقا للثقافة والفن والفكر وكانت بداية للسجال السياسى لليسار واليمين خارج الأطر الرسمية مع الانشغال الدائم بالقضية الوطنية من كل الأطياف التى شكلت وعى ضباط يوليو أنفسهم، الذين فتحوا الباب بزاوية محسوبة لعهد جديد بلور كثيرا من إنجازاته فى الواقع حتى فى رمضان رجال الحقبة الليبرالية على اختلاف مشاربهم. أضافت يوليو لثوابت الشهر الدائمة، حيث منها فى جوانب العبادات مثلا يهتم البعض بأن يختم قراءة القرآن فى أثناء الشهر، ويحرص البعض على صلاة التراويح، أما فى العادات فلا يمر الشهر على بيت دون كنافة وقطايف تتفنن الأسر حسب إمكاناتها المادية فى إعدادها، والقطايف مثلا تكاد تقتصر كحلوى على هذا الشهر فقط، وكلتاهما الكنافة والقطايف عرفتا فى مصر منذ عهد الدولة الفاطمية التى ظهر معها فانوس رمضان، الذى يعد إبداعة مصرية بدأت بمصادفة ارتبطت بيوم وتوقيت وصول المعز لدين الله الفاطمى القاهرة قادما من الغرب فى الخامس من رمضان عام 358 هجرية، إذ خرج المصريون فى موكب كبير ضم أبناء الشعب من الرجال والنساء والأطفال أطراف الصحراء الغربية من ناحية الجيزة، ليستقبلوا المعز لدين الله الذى وصل ليلا، مما استدعى أن يحملوا الفوانيس الملونة والمزينة لإضاءة طريق الوالى الجديد والاحتفاء به، ثم استمرت الفوانيس مضاءة فى الشوارع طوال شهر رمضان، لتصبح عادة تتكرر كلما عاد هذا الشهر، وهكذا تحول الفانوس إلى رمز للفرحة وتقليد محبب فى شهر رمضان، ثم انتقلت عادة الفانوس المصرى الرمضانى إلى غالبية الدول العربية والإسلامية. ومنذ 50 عاما بعد أن استقرت الإذاعة المصرية، وأصبحت لها شخصيتها المتميزة ومع طبيعة التجديد وروح المغامرة والاقتحام، التى أعقبت ثورة 23 يوليو، قدمت الإذاعة المصرية فكرة جديدة للترويح عن الصائمين بعد الإفطار كانت فوازير رمضان، التى لاقت قبولا هائلا من المستمعين، وقد بدأت هذه الفكرة اعتبارا من عام 1955 على يد الزجال العظيم بيرم التونسى الذى كتب كلماتها وقدمتها بصوتها منذ ذلك الحين حتى العام الماضى الإذاعية اللامعة آمال فهمى وتلا كتابة الكلمات حتى وفاته شاعر العامية متعدد المواهب الماجد صلاح جاهين ثم تولاها من بعده ابنه بهاء، لكن مع ظهور التليفزيون بدأت الفوازير تخبو فى الإذاعة، لا سيما أن الشاشة الصغيرة انتحلت الفكرة من الميكروفون، وحققت الفوازير نجاحا غير مسبوق فى نسب المشاهد عندما قدمتها فى إطار استعراضى «نيللى» وقدرة المخرج فهمى عبد الحميد فى توظيف حيل الفيديو التى أتاحتها التكنولوجيا، ثم بدأت الفوازير تتراجع فى التليفزيون، لأن أفكار الكتابة والإخراج والأداء قلت، كما بدأت تظهر موجة برامج جديدة تقلد وتنسخ مثيلا لها فى القنوات الأجنبية مثل «الكاميرا الخفية» و«التوك شو»، غيرها صرفت النظر عن الفوازير الاستعراضية المتهالكة كانت فوازير رمضان الإذاعية وجبة ثقافية دسمة سهلة الهضم فى شعرها العامى وزجلها، وكانت موضوعاتها رفيعة المستوى اقتحمت بذكاء وبساطة تضاريس جغرافيا مصر وعمق تاريخها وفضائها الاجتماعى والأدبى والسياسى، وقد بلغ من قوة تأثير الفوازير الإذاعية أن عبد الحليم حافظ غنى فى إحدى حفلاته أغنية للفوازير. من بين أعمال الدراما الإذاعية العملاقة على تعددها كان مسلسل ألف ليلة وليلة ذا المذاق المميز والمتفرد الذى ارتبط تحديدا بشهر رمضان، وقد كتبه طاهر أبو فاشا وأخرجه محمد محمود شعبان (بابا شارو) أحد آباء الإذاعة المصرية البارعين، وكان المصريون يتحلقون يوميا حول الراديو على موجة البرنامج العام فى ميعاد المسلسل الذى يبدأ باللحن المميز المأخوذ من المؤلف الموسيقى الروسى «رمسكى كورساكوف»، يعقبه الصوت والأداء الدرامى الذى يندر تكراره للرائعة زوزو نبيل التى أدت دور شهرزاد، وهى التى تنهى الحلقة بتثاؤبها الشهير، وهى تعتذر عن الحكى للملك قائلة «مولاى»، وكما هى العادة انتقلت فكرة هذا المسلسل إلى التليفزيون، لكنها لم تعمر مثلما عاشت طويلا فى الراديو، ورغم كل حيل وألاعيب الفيديو فشل الإنتاج التليفزيونى من تحقيق المردود الهائل الذى أنجزته الإذاعة مع الفكرة، لأن تجسيد المتخيل فى الملمح الأسطورى كان مصاغا فى فنون الاستماع أقوى مما تمت صياغته فى فنون التلقى البصرى، لذلك جاء العمل باهتا فى التليفزيون عكس ما كان لامعا ممزوجا بالألق والصيت فى الراديو، والدليل القاطع على هذا تبارى المواقع والمنتديات فى شبكة التواصل الاجتماعى على تجميع الحلقات الإذاعية، رغم ضخامة أعدادها، إذ بلغت 350 حلقة بعد أن أصبحت أثرا بعد عين فى الإذاعة والتليفزيون.