وصفه الزعيم سعد زغلول بأنه الكاتب الجبار، ولم تكن علاقة سعد بالعقاد مجرد علاقة بين زعيم أمة، وكاتب صحفى، بل تجاوزت ذلك بكثير لتصبح صداقة من نوع خاص، وقلده مجايله الدكتور طه حسين بأمير الشعراء الحقيقى، رغم أنه كان بينهما مشاحنات فكرية وسياسية، عملا على إخفائها كثيرا، لتفادى كل أشكال الصدام المتوقعة بين قطبين كبيرين فى الحياة الفكرية والسياسية والأدبية، ثم جاء وصفه بعد ذلك ب«محامى العباقرة»، إذ إنه كتب العبقريات الشهيرة، وهى «عبقرية محمد وعلى والصديق وعمر وأبى بكر»، هذا عدا كتابه «عبقرية جيتى»، وكتبه العملاقة عن ابن الرومى وسعد زغلول وإبراهيم لنكولن وغيرهم من قامات فكرية وسياسية وأدبية، وفى كل هذه المجالات كان العقاد مؤثرا ومثيرا وفاعلا ومجيدا، فالعقاد كان موسوعى النظر، عميق النظرة، ولا يأخذ بالظواهر فى كل الأمور التى يتعرض لها، لذلك كانت نظرته إلى الصيام تختلف إلى حد بعيد عن التفسيرات الشائعة والمتداولة، التى صارت كبديهيات فى وعى ووجدانات الناس، مثل أن حكمة الصيام تعود إلى أن الله يريد من الأغنياء أن يشعروا بالفقراء حال صومهم، رغم أن الصيام فريضة على الغنى وعلى الفقير، وهذه بديهية أهملها الباحثون عن فلسفة الصيام، وهنا يعود بنا العقاد إلى عهود زمنية بعيدة، وقبل الديانات الكتابية، ويتجول فى معانى وفلسفات الصيام قبل هذه الديانات الكتابية، ففى مقال له تحت عنوان «فلسفة الصوم» يعيدنا العقاد إلى أزمنة ما قبل الديانات الكتابية حيث: «حيث كانت العبادات على اختلافها معروفة فى الأديان الوثنيةالقديمة، لكن الأديان الكتابية هذبتها ووفقت معانيها وفضائل النفس فى عهود التقدم والحضارة، وأزالت عنها أدران الهمجية ومعائب القسوة والجهالة وبقايا الأساطير الأولى، ومن العبادات القديمة فى تاريخ التدين عبادة الصوم بأنواعه الكثيرة، ومنها الصيام عن بعض الطعام والصيام عن الطعام كله، والصيام فى بعض ساعات اليوم، والصيام فى أيام متواليات، وصيام الشكر وصيام الرياضة، وصيام التكفير، ومن المرجح دائما أن العقائد التى تلازم النفوس زمنا طويلا لا ترجع فى نشأتها إلى أصل واحد ولا علة واحدة، والصيام أحد هذه العقائد التى تحصى لها أصول كثيرة فى علم الأجناس البشرية وعلم المقابلة بين الأديان»، هكذا يعتبر العقاد أن تاريخ الأديان والعبادات متصل، وليس منفصلا، وكل ما يحدث هو أن الأديان المتطورة تخرج المظاهر الوحشية أو اللا معقولة من الظاهرة، فالصيام، مثلا، كان فى يوم من الأيام ضربا من عبادة الموتى أو عبادة الأرواح، إذ كان بعض الناس يجوعون باختيارهم حزنا على موتاهم، ثم تطور هذا الصوم فأصبح مفروضا على الأحياء ترضية لأرواح الموتى، لكيلا لا تغضب هذه الأرواح إذا تمتع الأحياء بالطعام وبالشرب، وهى محرومة منه، ولهذا، يفسر العقاد، يقترن الصيام أحيانا بتقديم الطعام عند القبور، كأنما يريد الأحياء المتقربون إلى الأرواح أن يقولوا لها، إنهم لا يطمئنون عليها بالطعام، ولا يستبيحون الأكل والشراب إلا بإذنه، وبعد الاستجابة لمطالبها. ويستدعى العقاد صورا ومفاهيم وأشكالا للصيام، ويستند إلى كتابات لجيمس فريزر، الذى يعزو الصيام إلى رياضات بدنية وصحية، كان يمارسها البشر فى عهود قديمة، ونسبيا، وتطورت هذه الأشكال لتأخذ بعدا دينيا، حتى نصل إلى عبادة الصيام فى مفهومها الإسلامى، ويتعرض العقاد للتفسيرات العديدة لفلسفة الصوم فى الإسلام فيقول: «فحكمة الصوم عند بعضهم أنه تعليم للأغنياء ليشعروا بحاجة الفقراء، وحكمته عند بعضهم أنه تكفير عن الخطايا بعقاب الأجساد التى تعانى ما تعانيه من الجوع والظمأ، وعند بعضهم أنه تطهير للجسم وتنزيه عن الحاجات الحيوانية إلى الطعام والشراب، وأحسن الحكم موقعا من العقل والنفس أن الصوم تدريب للعزيمة والخلق وتغليب لقوة الروح، وهو شرف إنسانى لا يزهد فيه الأغنياء ولا الفقراء، أما الصيام تعويدا للأغنياء على الفقر واستعطافا لهم على المحرومين، فهو من حاجات الأغنياء التى يستغنى عنها الفقراء، وكل هؤلاء وهؤلاء مفروض عليهم الصيام»، ولا يتوقف العقاد عن طرح رؤيته الخاصة لفلسفة الصوم وأغراضه وطبيعته، فهو كذلك تنزيه الجسد عن المطالب الحيوانية، حيث ترتفع إلى تحقيق إنسانية الإنسان التى تليق به وبعصره. وفى مقال آخر للعقاد تحت عنوان «رمضان شهر الإرادة»، ويعلق على منحى الهنود فى عقيدة اليوجا، وعلى عادات المتصوفة والنساك، لكن حكمة الصيام فى الأديان الكتابية فهى محصورة فى أغراض معدودة، وهى تعذيب النفس والتكفير عن الخطايا والسيئات، وتربية الأخلاق، ويخص العقاد الدين الإسلامى بأنه الدين الكتابى الوحيد الذى فرض كتابه الصيام فترة معروفة من الزمن على نحو معروف من النظام، ويستدعى العقاد آراء الأئمة واتفاقهم حول الحكمة المقصودة بفريضة الصيام باعتبارها تقويما للأخلاق وتربيتها، ويردف «وإن تعددت الأخلاق التى تذكر فى هذا المقام»، ولا يتوقف العقاد عند استدعاء الكتب والمتون الفكرية والفلاسفة، لتعضيد ما يذهب إليه من آراء مثيرة، بل يستدعى كذلك تجاربه الشخصية مع كثير من الناس حول فكرة الصيام وفلسفته، فيحكى عن أحد أصدقائه الذى كان يصوم شهر رمضان، رغم أنه لا يؤمن بالأديان، لكنه كان يمارس إرادة تهذيب النفس والخلق، وكان هذا الشخص يصوم فعليا، ولا يتورط فى الإفطار حتى وحده، والعقاد محق فى كل ما ذهب إليه ومثير فى الوقت نفسه، لكن الأكثر إثارة هو تأكيده أن الدين الإسلامى الوحيد هو الذى حدد فترة محددة للصيام، وأعتقد أن هذه المعلومة تحتاج إلى تدقيق، لكن هذا لا ينقص ما ذهب إليه العقاد المفكر من آراء واجتهادات جد عظيمة.