لدى كثير من المصريين تقدير للشخص المتدين الورِع. ويظهر ذلك بوضوح فى اعتبار سمة التدين أحد معايير الاختيار فى مسائل اجتماعية مهمة مثل الزواج. ولسنوات طويلة كان التدين يرتبط بالسلوك الاجتماعى، لا بالمظهر الاجتماعى. فالشخص المتدين هو الصادق فى أقواله، المخلص فى أفعاله، الأمين فى تعاملاته، الودود فى علاقاته.. إلى آخره. لكن السنوات الأخيرة شهدت تحولا فى مفهوم التدين، ليصبح مرتبطا بالمظهر لا بالسلوك. فأصبح المتدين هو الشخص ذا اللحية الكثيفة، الذى يلبس جلبابا قصيرا، ويمسك بالمسبحة، ويضع المصحف فى جيبه، ولديه زبيبة ضخمة فى جبهته.. إلى آخره. هذا التحول المظهرى، جعل من السهل على كثير من الناس الدخول فى زمرة المتدينين، دون الحاجة إلى إحداث أى تغيير فى سلوكهم الشخصى أو الاجتماعى. يخلو هذا النوع من التدين المظهرى من الورع، وينفصل عن الخلق الكريم. بما يخلق فجوة كبيرة بين لغة الإنسان وكلامه من ناحية، وأفعاله وسلوكياته من ناحية أخرى. وهى فجوة نرى تجلياتها فى مجتمعنا كل يوم، وتزداد بشاعة إذا ارتبطت بالخداع الجماهيرى العام، حين يتعلق الأمر بالسياسة. فقد لجأ الكثيرون من المتعطشين إلى السلطة فى الشهور الأخيرة إلى استغلال علامات التدين المظهرى لرسم صورة «المؤمن الورِع»، بعد أن اعتقدوا أن هذه الصورة ستكون مطيتهم لإرواء عطشهم للسلطة والنفوذ. وهكذا أصبحنا أمام خطاب «دينى-سياسى»، يتخفى وراء المقدس لممارسة المدنس. إن صورة «السياسى المؤمن» ذات تأثير حاسم فى توجيه الطريقة التى يمكن أن يستجيب من خلالها الجمهور لحديث السياسيين. فمن خلال إنتاج كلام سياسى محمل بالرموز الدينية، يتماهى ويمتزج مع النص القرآنى الإلهى والحكى الشعبى الدينى والخطبة الدينية، تتم إعادة تنظيم عملية تلقى الخطاب السياسى ليتم تلقيه بوصفه خطابا دينيا، لا يجوز عليه النقد أو التفنيد أو الاعتراض أو الاستهجان أو فضح نياته الحقيقية أو كشف مصالحه الخفية. وهكذا يُفلح هؤلاء السياسيون فى وضع قناع دينى سميك على خطابهم السياسى. فلا يتبقى للجمهور الذى يتلقاه إلا أن يصدِّق على هذا الخطاب المتقنع بالدين، أو يسكت عنه. وفى الحالتين يُترك ليعمل فى نفوس الجمهور دون نقد أو اعتراض. ومن تسول له نفسه أن ينقده أو يعترض عليه، أو يكشف المصالح الخفية له، عادة ما يتم إخراجه من حظيرة الدين إما بنعته بالعداء للدين، أو بنعته بأنه ليبرالى أو علمانى أو يسارى. وهى تسميات أفلح بعض الوعاظ/السياسيين فى تشويه دلالاتها ومعانيها، وتحويلها إلى تهم جاهزة يطلقها السياسيون الجدد فى وجه منافسيهم ومعارضيهم ومنتقديهم. لا يعترف الخطاب السياسى المتقنع بالدين بحق الاختلاف السياسى، أو حرية الاعتراض والنقد والتفنيد والمعارضة. فهو خطاب يدَّعى امتلاك الحقيقة المطلقة، وكل ما يخالف ما يروِّج له يُتهم بأنه باطل، وكل منْ يعارض ما يقدمه يوصم بأنه خارج عن الدين، وكل من يكشف المصالح الخفية وراءه يُنعت بأنه كاره للدين. ونادرا ما يسعى الخطاب السياسى المتقنع بالدين إلى استلهام القيم الإيجابية التى يتضمنها الخطاب الدينى، مثل قيم الإخاء والعدالة والمساواة والحرية والشورى ومقاومة العسف والظلم وعدم الخضوع إلا لله. بل غالبا ما يستهدف تقوية سلطة الفرد أو الجماعة السياسية التى تستخدمه فى مواجهة المخالفين، وتعزيز قدرتهم على إسكات المُعارِض وتقييد المقاوم، وينتج عن ذلك إهدار قيم الحرية والشورى، ومن ثم زوال إمكانية تحقق الإخاء والعدل والمساواة. فالحاكم أو السياسى الذى يسعى نحو التقنع بصورة الإله، لا يترك للمواطنين إلا منزلة العباد وربما العبيد أيضا. إن رجل السياسة الذى يرفع عصا الدين فى وجه معارضيه، فينعت نفسه بالإيمان ويضع الآخرين فى تخوم الفسق أو الكفر أو الإلحاد، أو يسِم أعماله بالصالحات وأعمال معارضيه بالطالحات- مثل هذا السياسى لا يعنيه الدين بل كرسى الحكم، ولا يشغله المبدأ بل السلطة. وربما كان المصريون أحوج ما يكون فى هذا الوقت العصيب إلى اليقظة المرتابة فى كل حزب أو جماعة تزج بالدين فى صراعها مع منافسيها على كراسى الحكم ومقاليد السلطة.