كان لبيتنا القديم، حيث نشأت، حديقة خلفية، لا يفصلها عن حديقة الجيران غير «ياسمينة»، ياسمينة من نوع لا يتجاوز ارتفاعه فى حال نموه، غير بضعة سنتيمترات، وعلى ذلك فالناظر عن بعد لم يكن ليلحظ أن المساحة الممتدة ما بين بيتين ينتميان إلى الطبقة المتوسطة، تكاد تكون مساحة واحدة، وأنه حتى مع هذا الفاصل، الذى هو ليس بفاصل، لم يكتف الذين يعيشون فى البيتين بوهمية الفصل، بل جاؤوا فى جزء منه وأزالوه «فالبساط أحمدى» للجيران القاطنين، مما يسمح ليس بمجرد التحية وتبادل الصباحات، لكنه يرفع من مستوى العلاقات إلى مستوى البيت الواحد، ومن ناحية أخرى يتيح للرجل الطيب المسؤول عن رعاية الحدائق فى المنطقة أن يتنقل من حديقة إلى أخرى دون الحاجة إلى الخروج إلى الشارع. بعض من بيوت ضاحيتنا، كان حدائقه فى المداخل المؤدية إلى البيوت، يعنى على الشارع، والعجيب، بمنطق اللحظة الراهنة، أن الفاصل ما بين الشارع العام وخصوصية البيت لم يكن ليختلف عن تلك الفواصل الياسمينية الأشبه بخطوط تحدد ملكيات، ولا تفصل. الدهشة الفعلية والحقيقية سوف تتأتى لما تعرف أن الزاوية الأخيرة فى مربعنا السكنى كانت معروفة باسم، «بيت الباشا»، وكان فعلا بيتا يخص أحد «الباشاوات»، تميزه المساحة الضخمة، والحديقة المسورة الأوسع، التى كانت تمثل الاستثناء أولا بندرة ما كانت تحتويه من نباتات نادرة، وثانيا بسورها الحجرى «المزخرف بالفيرفورجيه» والبالغ ارتفاعه ما يقرب من المتر، والتى تسمح مساحتها بوجود حجرات أنيقة للحارس والبواب والجناينى وغيره من الخدمات بالداخل. أما مبعث الدهشة فقد كان فى صورة غريبة، انطبعت فى ذاكرتى لعقود، وكانت «لبيه» مكتز التكوين، لعله ابن أحد أفراد هذا البيت، يجلس على كرسى مريح قرب الغروب، أمام ما كنا نسميه بيت الباشا، كان لا يتردد، أن يرد تحية أو يهدى بعضا من الورود إلى جار عابر. كان يسود المنطقة نوع من التواؤم، والمتأمل للمشهد، سوف يلاحظ أنه مع التباين النسبى لمفردات مكونات المشهد، اجتماعيا ومعماريا، فإن هذا التباين لم يخلق لا تقوقعا ولا حتى توجسا ولم يكن ليقف حائلا دون «التواصل» ليس فقط بين القاطنين، ولكن بينهم وبين من يترددون للمعاونة. تستطيع أن تنتقل إلى لقطة مكبرة، فى نفس السياق، لتجد الأحياء المتباينة اقتصاديا واجتماعيا، كانت تتجاور دون أسوار، ودون سعى للعزلة، وخذ عندك، جاردن سيتى تجاور المبتديان والسيدة، والزمالك وأبو العلا وبولاق، وهكذا.... لم تكن مصر تعرف تلك الحالة من «التسوير النفسى» -لو جاز التعبير- أو الشعور بالتوجس بل «الخوف» من القادم من خارج بيوتهم، المصريون الآن يسعون للحياة داخل الأسوار، والكمون داخل الأسوار حتى يمكننا القول إن الانقسام الواضح ليس فقط هو الساطع فى هذا الجيب السياسى الساعى إلى شطر مصر سياسيا باجتثاث هويتها، وأعنى به إرهاب الإخوان، بل أضيف إليه اغتراب المصريين بعضهم عن بعض اجتماعيا كمحصلة لاختلال اقتصادى فج. وهو اغتراب لا يقل خطورة، لأنه فى النهاية يفقد مصر التمازج والانسجام الواجب حتى مع الاعتراف بحتمية التباين الظاهرة التى استشرت مع تصاعد ظواهر الخلل الاقتصادى، وتنامى أنواع من الثراء، الفج، غير معلوم المصدر، لم تعرفها مصر قديما ولا أواسط عصورها. فكرة الجماعات المغلقة على نفسها أو المنغلقة، ولا كانت فى قراها أو مدنها تلك الحدود الفاصلة فى حسم يقترب من البتر، لكنها فى العقود الأخيرة، ألغت المساحات المشتركة لدرجة تهدد فعلا بما يشبه الاغتراب الداخلى، الظاهرة بدأت بقمة «الهرم المالى» بواسعى الثراء، الذين عكسوا رغبة فى البعد وأيضا فى الفصل، فحملوا إلى داخل «الكومباوند» ناديهم الصحى وناديهم الاجتماعى، وواحاتهم، وقاعات احتفالاتهم، وألحقوا «بالمستعمرات» أو على مقربة منها مدارس تناسب حيواتهم وأسواقهم، وطبعا لهم مواصلاتهم، ولم تعد لهم أى حاجة بما هو خارج «السور»، وتمادوا فى بعض الأحيان نحو مزيد من التحوصل، فأصبحنا «سورا» داخل السور، لما يقرر مثلا أفراد الأسرة الواحدة، أو مجموعة من الأصدقاء، أن يبنوا «سورا» داخل السور الكبير حول وحداتهم، ثم لحقت الشرائح العليا من الطبقة المتوسطة، فى سياق يحاول أن يحتذى بالسابقين، وانحسرت مساحات التلاقى، فلا مدرسة ولا ناد ولا وسيلة مواصلات ولا مستشفى ولا حتى ثرى أو تراب، يجمع هؤلاء بغيرهم، «يمكننا استثناء الخدمة العسكرية فقط وتحديدا فالحمد لله ما زال المصريون يتعرفون على بعضهم فيها». من التكرار الممل أن نستحضر ما يجرى فى الدنيا حولنا وأنه مهما بلغت درجات التفاوت الاقتصادى فى أوروبا أو أمريكا فإن المدرسة العامة والتعليم العام حتى الثانوى على الأقل يصهر الشعوب، وأنه الاستثناء فى الخاص، وأن العادى أن المدير التنفيذى فى الوول ستريت ياخد نفس المترو جنب بائع أو عامل نظافة، و.. و. نحن لسنا إزاء حراك اجتماعى لكن «انفصال اجتماعى»، تحوصل، كان ترجمة وانعكاسا لأوضاع اقتصادية، وليس من المبالغة اعتباره خطرا حقيقيا يهدد فكرة قوام الشعب، أو نسيجه، يمكن أن ترى فى اختفاء المساحات العامة أو المشتركة طريقا لجهنم الرقع «بضم الراء»، وليس النسيج الاجتماعى أو الشعب، الذى لو استمر، لاحتاج إلى نوعية من السفارات المصغرة، الداخلية ليتعارف المصريون.