تختلف حالات الانتحار للمثقفين والكتاب والشعراء بشكل كبير ومتنوع حسب اختلاف الأشخاص وظروفهم ومساراتهم، ولدينا حفنة من أشخاص موهوبين جدا، وحققوا حضورا ثقافيا أو سياسيا أو فكريا ملحوظا، ولكن هذا الحضور لم ينقذهم من رفض العالم وألوانه الزاهية، للانحياز إلى الاختفاء المؤلم والمدّوى، وأشهر المنتحرين على المستوى العالمى الكاتب الأمريكى أرنست هيمنجواى، الذى حصل على جائزة نوبل، وكانت رواياته تجوب العالم بقوة وحيوية كبيرتين، وعلى المستوى العربى عندنا الشاعر اللبنانى خليل حاوى، والذى صوّب إلى رأسه المسدس وأطلق على نفسه الرصاص عندما دخل الإسرائيليون إلى أرض لبنان فى حفلة غزو وهمجية غير مسبوقة عام 1982، ولم تستطع الأنظمة العربية سوى إصدار البيانات الفضفاضة والبرّاقة، ولم يقف فى وجه هذا الغزو سوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية فى الجنوب، وكان هذا الانتحار موقفا من هذا الغزو، دعك من أن موقف الانتحار نفسه موقف عبثى، والإحساس الكامل بعدم جدوى أى شىء، ونحن لا نبحث فى تفسيرات الطب النفسى الذى تحيرّنا كثيرا اختلافات مناهجه من مدرسة إلى أخرى، وعندنا على المستوى المصرى من انتحروا، منهم الشاعر أحمد العاصى، وترك لنا ديوانا فلسفيا رائعا، صدر عام 1926، وقدم له أمير الشعراء أحمد شوقى، ولكن الديوان لم يطبع مرة أخرى، ثم المفكر والفيلسوف إسماعيل أدهم الذى انتحر عام 1940 بعد أن وجد غريقا على شواطئ الإسكندرية، وكان قد سّود مئات الصفحات الفكرية التى تبحث فى التراث العربى القديم والحديث، ولكن التأريخ الأدبى والفكرى آثر أن يختصره فى الجوانب المثيرة، لذلك لم يتوقف مؤرخو الأدب والثقافة والفكر إلا عند مقالاته المعنونة ب«لماذ أنا ملحد؟»، بينما إسماعيل أدهم يحتاج إلى اكتشاف مرة أخرى، وهناك فى العصر الحديث الشاعر أحمد عبيدة، الذى انتحر عام 1974، وكان مترجما وشاعرا ومحللا أدبيا، وكان له حضور سياسى ملحوظ، وكان أمن الدولة يطارده دوما، وفى المرة الأخيرة التى قبض عليه فيها انتزعوا منه كل كتاباته وترجماته، ولم يؤدوها إليه رغم مطالبته الملحّة لآثاره، وعندما فشل فى الحصول عليها سكب على نفسه صفيحة كيروسين، وأشعل فى نفسه النار، وضاعت كتاباته إلا قليلا، ولكن جمعية كتاب الغد قد أصدرت كتيبا صغيرا يحتوى على بعض أشعاره، كذلك هناك، الكاتب الروائى، رجاء عليش، الذى كتب روايات تحت عناوين غريبة مثل «لا تكن قبيحا»، و«كلهم أعدائى»، ولم يحقق شهرة واسعة، ولكنه انتحر أيضا لأن المجتمع لا يقبل قبيحا مثله كما كان يعتقد، والمدهش أن باحثة سورية كانت تعد قائمة بالكاتبات المصريات، ووضعته ضمن الكاتبات دون أن تتأكد من هوية الكاتب، وهذا لأن اسمه يحمل هذا الالتباس، ونأتى إلى الراحلة والباحثة والمناضلة أروى صالح وقد فوجئ المجتمع السياسى والثقافى بانتحارها يوم 7 يونيو 1997، بعد أن ألقت بنفسها من الدور العاشر، وكما فجرت من قبل قضية شائكة جدا بصدور كتابها العلامة «المبتسرون»، واحتجاجات واعتراضات ومقالات وتحليلات، حدث ذلك فور سماع خبر انتحارها المحزن والفاجع، ورغم أهمية كتاب «المبتسرون»، الذى راح يعالج المزالق المعقدة التى آلت إليها مصائر جيل السبعينيات الذى واجه السادات وسلطته وجبروته وطغيانه، ولم يأبه هذا الجيل كثيرا بتلويحات السادات بالديمقراطية ذات الأنياب، أى ديمقراطية البطش، وكشف هذا الجيل عن خبرات سياسية مبتكرة فى الدرس والتحليل والنضال السياسى، ولكن أروى راحت لتكشف سلسلة من أشكال العوار، التى علقت بمسيرة هذا الجيل وحركته وطموحه، ثم أخيرا بأفول هذه الطموحات أو توقفها أمام مكاسب فردية صغيرة، وبعد صدور الكتاب، وبعد تصديه للذات السبعينية المتضخمة، والتى عاشت كثيرا على بعض الشعارات، كانت أروى هدفا جديدا للرجم الثقافى والسياسى، واتهمها كثيرون بأنها مريضة نفسيا، وعليها أن تعالج نفسها، وكل هذا لأنها اقتربت من وجه قدس الأقداس، ثم حدّقت كثيرا فى وجه الوحش الكاسر، فما كان من هذا الوحش إلا محاولات التنكيل بها ومحوها، بعدها آثرت أروى الانتماء لقبيلة الكتّاب والمبدعين والفنانين، وتزوجت من شاعر سكندرى جميل، وكتبت بضع دراسات نقدية عن صنع الله إبراهيم، وصدرت بعد رحيلها فى كتاب عنوانه «سرطان الروح»، وكانت قد ترجمت كتابا لافتا عنوانه «نقد الحركة النسوية» للكاتب الإنجليزى تونى كليف، وقدمت له الناقدة فريدة النقاش، وصدر الكتاب عن سلسلة كتاب الأهالى، وما عدا ذلك فلها ترجمات شعرية للشاعر الألمانى ريلكة، وبعض ترجمات أخرى نشرتها فى مجلة «القاهرة» آنذاك، لكن الأهم من ذلك أن أروى صالح كان لها تجربة عميقة فى العمل النضالى، وكانت قد التحقت بحزب العمال الشيوعى المصرى الذى قاد نضالات متعددة فى السبعينيات، ولها مؤلفات سياسية فى غاية الأهمية، وكانت أروى تكتب مقالاتها وإبداعاتها السياسية باسم حركى هو «صفاء إسماعيل»، وقد تمت التعمية أو التجاهل لهذه الكتابات، ليتم اختصارها فى كتابها «المبتسرون»، وبهذه المناسبة هناك كثيرون كتبوا بأسماء حركية، وأنجزوا مؤلفات مرموقة فى عالم النضال السياسى فى السبعينيات، ومن هؤلاء على سبيل المثال المترجم خليل كلفت والناقد والمفكر إبراهيم فتحى والباحث صلاح العمروسى والناقد والسيناريست جلال الجميعى والدكتور حسنين كشك وغيرهم، ودون قراءة كتابات كل هؤلاء وغيرهم وعلى رأسهم أروى صالح -صفاء إسماعيل- لن يكتمل التعرف العميق على المرحلة السياسية، التى مرّت بها مصر فى سبعينيات القرن الماضى.