هناك كاتب يتمتع بالصدق، ويبذل مجهودا كبيرا فى الاقتداء به، واعتباره الشعار الأول فى الحياة، وهذا الكاتب يتبع الأمثولة التى تقول: «الصدق دائما ينجى صاحبه من المهالك»، ولكن هناك الصدق المفرط الذى لا ينجى صاحبه من هذه المهالك، بل على العكس، فهو يورطه فيها دوما، وصافيناز كاظم الكاتبة والفنانة والصحفية كذلك، من هذا النوع الأخير الذى لا ينجو من الاختلاف الدائم مع الآخرين، فهى لا تستطيع أن تخفى ما تعتقد، ولا تقدر على قوله فى أساليب مراوغة وبراقة، ولا تضع أشواكها فى قفازات من الحرير الناعم، فهى دوما تلقى بما تراه دفعة واحدة، فتحدث نوعا من الانفجار، وهى لا تخشى من هذا الانفجار، حتى لو انفجرت فيها العبوة، وهى عندما تتحمس لظاهرة ما تقطر عشقا وترويجا ودعاية لوجه الفن والثقافة والحق والوطن كما تعتقد، وتخر كلماتها عسلا صافيا، ولكنها عندما تختلف مع ظاهرة أو شخص، أو مع كاتب حتى لو كان هذا الكاتب قد رحل، لا تستطيع أن تضبط إيقاع القلم الذى يذهب ساخطا ولاعنا فى كل اتجاه، راجعوا حبها لأحمد بهاء الدين وسناء البيسى ومحمد فريد أبو حديد -خالها- وبابا شاروا، وقارنوا هذه المحبة بحديثها عن فتحى غانم وأمل دنقل، وهى لم تتمالك نفسها فى أحد اللقاءات مع أمل، فعندما احتد النقاش بينه وبينها، قذفته بفنجان القهوة. صافيناز بدأت حياتها شاعرة وناثرة، وقرأت لها بعض نصوص شعرية فى مجلة «التحرير» فى النصف الثانى من خمسينيات القرن الماضى، وبعد تخرجها فى الجامعة، قررت الذهاب إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية لدراسة المسرح، وفى عام 1970، أصدرت كتابها الأول «رومانتيكيات»، الذى قدمه الكاتب أحمد بهاء الدين، كتب يقول: «عندما عرفت صافيناز لأول مرة عام 1959، كانت تلك الفتاة المتخرجة فى قسم الصحافة ذات الضجيج العالى فى ردهات (أخبار اليوم) بطوابقها الأحد عشر.. وكانت عائدة من أول رحلة لها، قامت على طريقة الأوتوستوب، متاعها القليل -كالكشافة- على ظهرها، تطوف أوروبا ببنطلون خشن وقروش قليلة.. تعمل لتأكل، وتكتب إلى مجلة (الجيل الجديد) حلقات رحلتها المثيرة..»، ويسترسل بهاء فى الحديث عن هذه الفتاة الموهوبة، والتى تملك أسلوبا وصوتا جديدا نقيا، وتختفى صافى عن بهاء حتى يلتقيها عام 1964 فى نيويورك، وذهب إلى شقتها المملوءة بصور صديقاتها وأهلها فى مصر، وقصاصات من صحف.. وأبيات شعر من شتى البلاد العربية، إنها بالفعل تعيش حالة كاملة من الفن، فهى تسمع الموسيقى، وتكتب القصائد، وتتأثر بألبير كامى، وتترجم بعضا من كتاباته، وترسلها لتنشرها فى مجلة «الهلال»، ففى هذا الكتاب تكتب صافى يومياتها، وفى 1 يونيو 1964 تكتب: «قمت أصنع خبزا دون مناسبة كى أهرب من الكتابة، أكتب رسالة للجريدة ولا أريد، الجو حار والنافذة مفتوحة، تكييف الهواء صوته مزعج، هل يحدث لك أحيانا أن ترفض الرد على التليفون؟ اليوم حدث لى هذا، لم أخرج ورفضت رفع السماعة، وعلقت على الحائط قطعة جديدة من شعر الحبيب ت.س.إليوت الذى تكرهه، خفت منها تقول: «أقول لنفسى ابقى بلا حراك وانتظرى بلا أمل فالأمل قد يكون تمنيا للشىء الخطأ، وانتظرى بلا حب، فالحب قد يكون حبا للشىء الخطأ، هناك بعد إيمان، ولكن الإيمان والحب والامل، كلها فى الانتظار». وتسجل صافيناز بقية القصيدة التى تعشقها، وهذه القصيدة نفسها لا يحبها الحبيب، فربما ينزعج من الصور المعلقة فى غرفتها لإليوت وكامى وبيكيت، لكن صافيناز لا تهتم، فهى معنية بالأساس بممارسة قناعاتها حتى النهاية، حتى لو كانت هذه القناعات تدّمر علاقات وصداقات ومنحا دراسية وفرصا من العمل هنا أو هناك، وبالطبع لا بد أن تختلف مع صافيناز كاظم، وهذا من حقك تماما، وأنا شخصيا اختلفت معها مرة، وورطتنى صحيفة «روزاليوسف» منذ سنوات للرد على بضعة أفكار وآراء جاءت فى حوار أجراه الصديق أيمن الحكيم، وكتبت ما امتلأت به صفحة كاملة، وبعد ذلك عرفت من مقال لها أنها لم تر الحوار فى صياغته النهائية، وما عدا ذلك، فصافيناز تعيش الكتابة بكل ما تملك من شعور وهواجس وأفكار، وعندما تمسك بالقلم فهى تدوس بقوة، وأحيانا بضراوة، ولكن الكلمات والجمل والفقرات تنتظم فى ثبات، وكأنها تحفر المعنى، فهى لا تصوغ، ولا تؤلف، لكنها كالنحات الذى يبتكر تماثيله فى قلب الجبل، وينتهى الأمر بتجسيد كل ما يشعر به على هيئة تمثال يكاد ينطق، هكذا صافيناز تحفر معانيها العاشقة أو الساخطة، بالقدر ذاته، وبالحدة نفسها، ودوما تكون الذات الصافينازية حاضرة وشاهدة ومقيمة فى قلب المعنى، وهذا يجعل أن للكتابة تضاريس، يستطيع القارئ أن يتلمسها، وأعتقد أن التقاءها مع الشاعر أحمد فؤاد نجم لم يكن مصادفة، فالفكرتان التقيتا وامتزجتا وارتبطتا بقوة، ولكن الفكرتين نفسهما لم يستطيعا التعايش، لأنهما اصطدمتا، ولكن صافيناز ظلت تدافع عن الفكرة بحب وشرف واستقامة، وكانت تهاجم كل من وقفوا فى وجه التقاء الفكرتين، وكان رأيها أن أحمد فؤاد نجم هو امتداد لعبد الله النديم، ليس تكرارا له، لكنه امتداد للفكرة والروح والمعنى والأمل، وكان الوسط الثقافى يعتقد أن زواج نجم من صافيناز نوع من المغامرة، لكننى أعتبر أن هذا اللقاء كان من أهم زيجات المثقفين، لأنه قام على حب حقيقى، وفكرة نبيلة.