منذ سنوات طويلة، وبالتحديد عام 76، كنت طالبًا فى الصف الأول الثانوى، وقتها فوجئت فى أثناء معركة انتخابات مجلس الشعب بالإسكندرية بظهور شاب عمره ثلاثون عامًا يخوض معركة انتخابية شرسة فى نفس دائرة رئيس الوزراء المرحوم ممدوح سالم، وتوقَّع الجميع أن يفشل الشاب الصغير، فهو يمثِّل اليسار المصرى بإمكانيات محدودة وقدرات مالية ضعيفة أمام مرشّح يملك العصبية والمال والنفوذ، بالإضافة إلى السلطة الممثلة فى حزب مصر، لكن المفاجأة أن المرشَّح الشاب استحوذ على اهتمام بالغ من الشعب السكندرى.. أصبح حديثهم.. حواراتهم.. أحلامهم.. طموحاتهم، بما يطرحه من رؤية بشجاعة، وتحوَّلت دائرة كرموز التى يخوض فيها الانتخابات إلى محطة اهتمام عالمى بين مرشَّحى السلطة والمرشَّح الشاب اليسارى.. بين أهداف حزب اليمين وأصحاب الانفتاح أمام مواجهة الاشتراكيين الباحثين عن العدالة الاجتماعية.. وقتها عرف الشعب السكندرى اسم مناضل جديد هو أبو العز الحريرى، والذى أصبح يحمل آمال أبناء دائرة كرموز، فتجمَّع حوله الآلاف ولم يجد منافسه مفرًّا من محاولة قتله، لكن إرادة الله شاءت أن ينجو ليكتسح الحريرى الانتخابات ويصبح أصغر عضو مجلس شعب، ويعود مع مجموعة الإسكندرية بقيادة المرحوم الدكتور القاضى وعادل عيد والشيخ عاشور والقطب الناصرى كمال أحمد، ليقود معارضة سياسات الرئيس السادات الذى ضاق بهم فحلّ مجلس الشعب واعتقل الحريرى عدة مرات، أبرزها فى سبتمبر 81، حتى خرج بعدها مستمرًّا فى نضاله وعلى مبادئه، سواء تحت قبة البرلمان أو من خلال حزبه، وفى منتصف الثمانينيات تعرَّفت على أبو العز الحريرى من خلال عملى الصحفى فى جريدة «الشعب» وقد تعلَّمت منه الكثير فى أسلوب الحوار ودقة البيانات والشجاعة فى إبداء الرأى.. عرفت الحريرى كواحد ممن احتفظوا بمبادئهم فى وقت انحرف فيه الكثيرون عن المسار لتحقيق أهداف خاصة.. لم يقبل المهادنة فى وقت باع فيه الكثيرون مواقفهم للحصول على كرسى السلطة.. رفض الكثير من العروض وتعرض للاضطهاد عشرات المرات، لكنه ظلّ صامدًا بإيمان صلب بأن الحق لا يضيع، وفى عصر الإخوان تعرّض أبو العز للتنكيل وقد أُصبت بدهشة وألم عندما قيل إن أبو العز تعرَّض للاعتداء، لأنه كان يوزّع أموالًا على البلطجية للاعتداء على مقر «الحرية والعدالة»، فهذا أبشع تلفيق وجّه إلى الحريرى، فآخر ما يمكن أن يوجه إليه هذا الاتهام.. وإذا كانت للحريرى أموال فهى تكمن فى حب الشعب السكندرى وثقتهم به.. فى أدائه المميز وشجاعته فى إبداء الرأى.. فى ثباته على مواقفه ووضوحه فى عرض قضاياه حتى لو اختلفت معه.. لم نعرف الحريرى فاسدًا أو منحرفًا أو مأجورًا بل شريفًا عفيفًا مكافحًا، ظل وسيظل مدافعًا عن الشعب ضد أعدائه ومنحازًا للعدالة الاجتماعية ولا يبحث عن منصب أو سلطة.. ورغم مرور السنين والأيام وتعاقب الأجيال لم يستطع أحد أن يقهر أبو العز الحريرى، ومؤخرًا هاجمه مرض أشد من أمراض الفقر والجهل والعشوائية التى تعيش فى كثير من أنحاء مصر، ومع ذلك أثق أنه سينتصر عليه كما ظل دائمًا منتصرًا فى معاركه.. الحريرى هو نموذج للنضال الوطنى ورمز للمدافعين عن الحرية.. مثال يجب أن يحتذى به الشباب الجديد الذى يسعى لبناء مصر المستقبل.. أمثال الحريرى هم صناع المستقبل وراسمو الأمل وعلامة الطريق الصحيح لمصر القوية.. لا يزال صوت الحريرى فى أذنى أسمعه منذ كنا معًا صباح يوم 30 يونيو الماضى وهو يهنّئنى بأن مصر قادمة ولن يكون هناك ظلم أو إرهاب وإنما عيش وحرية وعدالة اجتماعية.. هذه أحلامه التى ناضل من أجلها ننتظر أن تشرق بشمسها علينا وأن يطل الحريرى من جديد إن مصر عادت مرة أخرى لأبنائها الشرفاء.