رأينا كيف ودعت سيلان عرابى بأحسن مما استقبلته به. وكيف أنه صحب معه كل أفراد أسرته فى عودة نهائية إلى الوطن. ولا يدرى أحد ماذا كان يدور فى نفس عرابى، طوال الرحلة التى استغرقت نحو أسبوعين فى عرض البحر، بعد هذا الوداع الحار واحتفالات العرفان بقيمته وجميله وما أسداه إلى الجزيرة من أفكار وأعمال. هل تبخرت مشاعر التحقق الطيبة مع ذبول أطواق الزهور التى كللوا بها عنقه؟ هل ناوشته أطياف أكدار ما ودعته مصر به بليل عند نفيه مع رفاقه قبل ثمانية عشر عاما؟ وقد أدرك الآن وبعد زيارات بلنت المتكررة له فى الجزيرة، كل ما دفعه صديقه عنه من مصائب ومكائد. هل تذكر كيف خانه الكثيرون وهو لا يزال بين ظهرانيهم؟ بدءا من كبار الأعيان من عينة محمد سلطان باشا، وصولا إلى كبار المثقفين من عينة على مبارك باشا. وهل تصور فى أسوأ كوابيسه، وهو يعود بعدما تقدم به العمر، وكلّ البصر، وتضعضع الجسد، ما استقبلته به مصر، وهو يطأ ترابها من جديد فى ميناء السويس، من جحود؟ هل كان يدرك حجم التحولات التى انتابت مصر تحت الاحتلال المزدوج، التركى والإنجليزى؟ فقد كان يريد تخليصها من احتلال واحد، وهو الاحتلال العثمانى، فعلق الكثيرون على كاهله مسؤولية هذا الاحتلال الجديد. وتناسى الكثيرون الاحتلال الأول، بل عملوا على توطيد دعائمه. وهل كان يعرف مدى تصاريف الثورة المضادة ومراوغاتها المركّبة فى ذلك الزمن البعيد؟ وقبل أن تصبح الثورة المضادة، كما هو الحال الآن فى عصرنا الحديث، أرقى العلوم الإنسانية والاجتماعية وأمهرها توظيفا لنتائج كل هذه المعارف والعلوم. حتى نجيب عن هذه الأسئلة، ونفهم سر العداء له وللثورة النبيلة الناصعة التى كان يمثلها عند وصوله، علينا أن نعرف ماذا جرى فى السنوات الأولى للاحتلال. وما طبيعة التحولات التى انتابت الخطاب الوطنى الذى قاد صياغته، وتشكيل محددات الرؤية فيه، من خانوا الثورة العرابية، وفى مقدمتهم على باشا مبارك نفسه. فقد سادت السنوات العشر التى أعقبت هزيمة الثورة العرابية بالاحتلال البريطانى الذى باركه الخديو توفيق وخضع له خلفه الخديو عباس حلمى، خطابات مضللة تشوه الثورة، وتزيف الوعى وتمسخ التاريخ. فقد كان مثقف الثورة العرابية الوطنى الكبير، عبد الله النديم (1842 - 1896) مختفيا طوال تلك السنوات العشر الأولى، ومطلوبا للعدالة أو بالأحرى للظلم الذى انتصر. فخلا الجو لكل أتباع الخديو، ولمن خانوا الثورة لتشويه صورة عرابى وصحبه. ولأن مآسى التاريخ، كما علمنا ماركس، تعيد نفسها فى المرة التالية كمهازل بائسة، فما على من يريد أن يعرف كيف كان حال الخطاب الوطنى فى تلك السنوات العصيبة بعد هزيمة الثورة إلا أن يتأمل الصور التى عرضتها علينا وسائل الإعلام المختلفة للقاء المثقفين مؤخرا مع المرشح الرئاسى عبد الفتاح السيسى. حيث لم ألمح فى تلك الصور أيا من أحفاد عبد الله النديم، وكأنهم يواصلون اختفاءه الذى فرضته عليهم تحولات الثورة والمقادير الجائرة. إنما رأيت الكثيرين من أحفاد على مبارك، ممن أكلوا على موائد كل الطغاة من مبارك وصدام حسين وحتى القذافى، واستمرؤوا التمرغ فى حظيرة فاروق حسنى، ولا يزال بعضهم يتمتع بما حظى به من علفها الوفير. وإذا كان هذا هو الحال بعد أكثر قليلا من ثلاث سنوات على ثورة 25 يناير، التى تتجلى فيها الكثير من مآسى الثورة العرابية بصورة بائسة، فيمكن للقارئ الذى يرى اليوم مهازل أحفاد على مبارك يشوشون على المصريين الوعى، ويسدون عنهم منافذ الضوء الذى انبثق عن الثورة، أن يدرك مدى ما كان عليه الحال عند عودة أحمد عرابى إلى مصر، بعد ما يقرب من عشرين عاما على هزيمة ثورته. وماذا يمكن أن تشكل مثل تلك العودة إلى جرذان الحياة الثقافية والخطاب السياسى فى مصر وقتها. ولا بد للقارئ أن يدرك أنه كانت هناك حالة من الانحلال والغم الوطنى العام التى خيمت على البلاد بعد هزيمة الثورة العرابية. حالة لم تعرفها مصر من بعد إلا فى أعقاب هزيمة 1967، كما تعيش شيئا منها من جديد بعد انحسار نشوة ثورة 25 يناير الجميلة، وتخبط الثورة فى أحابيل الثورة المضادة التى نسجها العسكر والإخوان. وكان الاحتلال البريطانى قد بدأ عهده بإلغاء دستور 1882، هل أقول ما أشبه الليلة بالبارحة! وبترويض الخديو وإخضاعه كلية لإرادة المستعمر الجديد، وهو الأمر الذى بدأ فور الاحتلال، بمبدأ جرانفيل المعروف، وقرار الإنجليز بشأن العرابيين ومعارضة إعدامهم كيلا يتحولون إلى أبطال تؤجج دماؤهم نيران الثورة من جديد، على غير إرادة الخديو الذى كان مشوقا إلى الانتقام منهم كى يعزز سلطته المهترئة. لكن آخر ما كان يهم الإنجليز هو تعزيز سلطة الخديو، بل كان فى صالحهم أن تبقى تلك السلطة مهتزة ومهترئة معا. لأن مطامع بريطانيا فى مصر كانت قد أخذت فى التبلور فى تلك السنوات العشر الأولى التى أعقبت الاحتلال، فتناست وعودها بترك البلاد بعد استقرار أحوالها. ووطد اللورد كرومر دعائم الاستعمار البريطانى فيها، وجعله مفيدا لبريطانيا فى كل المجالات. (راجع كتاب روجر أوين المهم عن كرومر). وقد وصل الأمر عند عودة عرابى إلى مصر إلى وضع غريب لخصه اللورد كرومر فى عبارته الشهيرة وقتها: «إن مصر بلد يقوم فيه جنس أجنبى غريب (البريطانيون) بالسيطرة على جنس أجنبى آخر (الأتراك) فى حكمه لجنس ثالث (المصريين)». (راجع كتاب روجر أوين، ص 353). لكن هذا الجنس الثالث، حسب عنوان مسرحية يوسف إدريس الجميلة، الذى أيقظت الثورة العرابية وعيه ورغبته فى الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية وحكم بلاده بنفسه، وليس عبر وكلاء العثمانيين القدامى، أو الإنجليز أو حتى الأمريكان، خضع لعملية تشويه رهيبة لوعيه، وشيطنة جهنمية غير مسبوقة لثورته. وكان عليه أن يدفع ثمن تآمر الجميع عليه. وهو نفس ما فعلته فلول النظام القديم وأتباع العثمانيين الجدد مع ثورة 25 يناير، فما أشبه الليلة بالبارحة! وبدلا من تركيز الخطاب «الوطنى» بين قوسين على الاحتلال المزدوج البريطانى/ التركى، الذى صاغت آلياته بمهارة عبارة اللورد كرومر الشهيرة، انهالت الأقلام الخائنة والموالية للاحتلال التركى على عرابى وحملته مسؤولية احتلال مصر. وكأن عرابى كان يحكم بلدا مستقلا انتهى به الأمر إلى الاحتلال، ولم يكن يريد التملص من احتلال تركى متخلف لأمور البلاد والعباد، فتآمر عليه الخديو والإنجليز معا، فتغير احتلال باحتلال، ودفعت مصر وحدها الثمن. بل إن من يدرس ما جرى فى مصر بعد الثورة العرابية يدرك أن الاحتلال التركى نفسه لم يستطع أن يدافع عن سلطته فى وجه الاحتلال الإنجليزى. بل خضع صاغرا له كلية أكثر من خضوع المصريين له، ورضى من الكعكة بالفتات الذى كان الإنجليز يتركونه له بعد انفضاض الوليمة فى كل المواجهات بين البلدين بعد الاحتلال. فى ظل هذا المناخ الغريب بدأ ما يمكن تسميته بالخطاب «الوطنى» الجديد فى التشكل فى السنوات العشر الثانية للاحتلال، وهو الخطاب الذى كان مصطفى كامل (1874 - 1908) أبرز ممثليه، الذى جسده حزبه (الوطنى) وجسد معه هذا الفهم الغريب للوطنية فى سياق التبعية. وهو نفسه الفهم الذى عاد إليه السادات وهو يسمى حزبه على اسم حزب مصطفى كامل «الحزب الوطنى» حزب الوطنية فى إطار التبعية. وليس غريبا ولا هو من قبيل الصدفة فى هذا المجال، فالتاريخ لا يعبر الصدف، إنما يوظفها، أن يكون على مبارك وزير المعارف وقتها هو أول من تنبه لخطاب التلميذ النجيب مصطفى كامل، وهو لا يزال غرّا صغيرا فى المدرسة الثانوية، وأثنى عليه. وليس غريبا أيضا أن يكشف التلميذ النجيب عن مواهبه بعدما التحق بمدرسة الحقوق، حينما زار الخديو عباس حلمى الثانى مدرسة الحقوق فى نوفمبر 1892 أى بعد عشر سنوات بالتمام والكمال من هزيمة الثورة العرابية، فكتب التلميذ النجيب مصطفى كامل قصيدة فى استقباله والترحيب به مطلعها: بشرى الحقوق بسيد الأمراء كنز العلا عباس ذو النعماء بشراك يا درا العدالة والهدى بمليك مصر وأوحد العظماء هكذا تحول خليفة الخائن «توفيق» إلى كنز العلا وأوحد العظماء فى هذا الخطاب «الوطنى» الجديد. لأن خطاب مصطفى كامل الوطنى، الذى بدأ فى التبلور منذ كان تلميذا فى مدرسة الحقوق، كان قد تبلور فى إهاب عملية تشويه الثورة العرابية التى تنشد استقلال مصر وشيطنتها، وضمن سياقات مؤامرات الثورة المضادة المراوغة عليها. وكان هذا الخطاب «الوطنى» بين قوسين، قد نسى كلية شعار الثورة العرابية المهم «لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا وعقارا، فوالله الذى لا إله إلا هو إننا لن نورث ولن نستعبد بعد اليوم»، وهو الشعار الذى أطلقه عرابى فى وقفة عابدين الشهيرة، ويعتقد الكثيرون أن من صاغه أصلا هو محمد عبيد. واختفت صيحة «مصر للمصريين» العرابية كلية من قاموس مصطفى كامل «الوطنى» ومن خطبه الحماسية الرنانة التى كان يلقيها فى ربوع مصر، ويجوب بها الحواضر الأوروبية فى فرنسا والنمسا والمجر وألمانيا وحتى إنجلترا نفسها. ووقع الكثيرون فى غرام شعاراته الحلوة والساذجة معا: «لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا». لكن بالطبع من النوع الذى يتنقل بحرية بين العواصم الأوروبية، ويقيم فيها المآدب لعشرات الصحفيين والساسة الأوروبيين، كى يخطب فيهم من أجل الوطن، دون أن يسأله أحد من أين لك هذا؟ وهو ابن الضابط المصرى البسيط. وليس بالطبع من النوع الذى يلقى بنفسه بعد قرن كامل من شعاره الجميل الساذج ذاك، فى قوارب الموت هربا من مصريته تلك إلى الفراديس الأوروبية الموهومة. ومنذ سفرته الأولى للأستانة عام 1896 وتقديمه فروض الولاء والطاعة بين يدى السلطان الذى أنعم عليه بهدية ثمينة، وبرغبته فى أن يمنحه نيشانا، فاعتذر بحياء عن قبوله، مخافة أن يتهمه خصومه بالسعى للحصول على الرتب والنياشين. لكنه سرعان ما غير رأيه بعد ذلك بعامين، وبعد أن تدبر الأمر مع صحبه فلامه من لامه، لأن النياشين تدعم سلطته وتأثيره، حينما أنعم السلطان عليه برتبة الامتياز أى البكوية فى زيارته التالية فى يونيو 1898 وهو فى الرابعة والعشرين من عمره (أين هذا مما يتعرض له شباب ثورة 25 يناير لأقل من هذا بكثير) ثم بالوسام المجيدى فى العام التالى عام 1899، ثم جاءت الباشوية عام 1904، وهو شاب غر فى الثلاثين من عمره. ولم يسأل مصطفى كامل نفسه أبدا لماذا يغدق عليه السلطان الذى أعلن عصيان عرابى وأسهم بإعلانه المشؤوم ذاك فى هزيمته، كل تلك الرتب والنياشين. بل تعامى كلية عن الاحتلال التركى للبلاد. ولم يكتف بالتعامى السلبى، إنما شفعه بالمبادرة الإيجابية حينما سعى إلى الاحتفال بالعيد المئوى هجريا لمؤسس العائلة الخديوية، أى لتولى محمد على، ولىّ النعم، حكم مصر فى 21 مايو 1902/ 13 صفر 1320، وهو يوم اختيار زعماء الشعب له عام 1220ه (يمكن مراجعة خطبته الشهيرة فى هذا المجال فى كتاب عبد الرحمن الرافعى، مصطفى كامل باعث الوطنية المصرية، ص 170)، وليس بالطبع الاحتفال بالعيد العشرين للثورة العرابية، أو لوقفة العزة والكرامة المصرية الشهيرة فى ميدان عابدين. فهل كان عرابى يدرك كل تلك التحولات وهو يتطلع للعودة إلى بلاده؟