قال لى الموسيقار الكبير كمال الطويل، إنه لجأ إلى هذه الحيلة من أجل أن يتم اعتماد صوت عبد الحليم حافظ، حيث كانت اللجنة تتكون من ثلاثة أعضاء وتقضى القواعد بأن المطرب لا يتم السماح له بالغناء فى الإذاعة إلا بعد الحصول على الإجماع، لا الأغلبية فقط.. ولاحظ كمال الطويل أن أحد أعضاء اللجنة مُصر على استبعاد صوت عبد الحليم، لأنه -أى كمال الطويل- هو الآخر يستبعد صوت يمت بصلة قربى إلى هذا العضو، وهمس العضو الثالث باللجنة لكمال بأن عليه أن يوافق على هذا الصوت مقابل أن يقنع الآخر بأن يوافق على عبد الحليم.. اعترض الطويل فى البداية، فكيف يقول نعم لصوت لا يمس قلبه، ولكنه فى النهاية لم يستمر طويلا فى اعتراضه بعد أن أصر صاحبنا على موقفه إلا إذا.. وخضع الطويل ل«إلا إذا»!! قال لى الموسيقار الكبير فى تسجيل، لا أزال أحتفظ به، إنه كان يعلم أنه يخالف ضميره الفنى، إلا أنه فى المقابل كان يعلم أن هذا الصوت لن يستطيع أن يصل إلى الناس، وسوف يسقط مع الزمن، وعاش ومات هذا المطرب فى المرحلة الرمادية، لا يحقق نجاحا لافتا، ولا هو أيضا يحقق فشلا ذريعا.. من يعش فى تلك المنطقة لا يجنى شيئا سوى الحسرة، ولم يشأ الطويل أن يبوح لى باسم هذا المطرب، ولم ألح فى الطلب، فليس هذا ما يعنينى فى الأمر. إننا فى الحياة قد نلجأ أحيانا إلى مثل هذه الصفقات التى تتم فيها المقايضة.. مثلا قد يحدث شىء مشابه فى لجان التحكيم، قد تمنح صوتك لفنان مقابل أن عضو اللجنة الآخر يمنح صوته لمن تريده أنت.. ولو طبقنا ذلك على ما جرى مؤخرا فى لجنة تحكيم مهرجان «وهران» سوف نلاحظ مثلا أن لجنة التحكيم لم تمنح صوتها لأى فيلم جزائرى، وهما «نورمال» و«قديش بتحبنى».. كنت أتصور أن «نورمال» سوف يحصد الجائزة بلا منازع، ولكن ما حدث وما لم أضعه فى الحسبان هو أن مخرج الفيلم مرزاق علواش، لا يتمتع بتقدير أدبى فى الجزائر، بل يُنظر إليه على أنه يبيع معاناة شعبه للآخر، وأن أفلامه، وأغلبها إنتاج مشترك مع شركات فرنسية، فى النهاية تقدم وجهة نظر الغرب، ولا أفلاما خالصة تصب لصالح الوطن.. هذه هى المشكلة التى تواجه من يعمل فى السينما خارج حدود بلده، بالإضافة إلى سبب شخصى وهو تركيبة علواش، الذى لم يكن موفقا فى التعبير عن نفسه عندما عقد مؤتمرا صحفيا فى الجزائر بعد نهاية عرض فيلمه، حيث سيطرت حالة التوجس عليه، وكان يقابل أسئلة الصحفيين بقدر كبير من التوجس.. هو لم يملك الحصافة المطلوبة فى مثل هذه الأمور لدى مرزاق، إحساس مسبق بأن هناك حالة من التوجس تجاه كل ما يصدر عنه وتتحول الأسئلة إلى قنابل ملغومة، كما أن الفيلم الجزائرى الثانى كان متواضعا فى مستواه، ولم يجرؤ أحد على مجرد أن يطرح اسمه فى المنافسة على الجوائز.. أعتقد أن لجنة التحكيم حرصت على أن تحقق قدرا من المواءمة بين أعضائها. كانت الجزائر خارج الحسبة، وهذا لعب دورا إيجابيا فى توزيع الجوائز.. أعضاء لجنة التحكيم لم يكونوا يمثلون فقط أشخاصهم، ولكن دولهم «مصر ولبنان والمغرب وتونس»، حصلت كل دولة من الأربع على نصيب ما من الجوائز، يعتمد على قدرة كل عضو على الدفاع عن الفيلم الذى يمثل بلده، أو بعقد صفقة. أشعر بأن النتائج قد لعبت فى الوصول إليها جنسية الأعضاء، وربما كرروا نفس حكاية المقايضة، أن تمنحنى جائزة مقابل أن أمنحك جائزة!! هل من الممكن أن تعقد صفقات سياسية للوصول إلى نقطة متوسطة، أن يغادر مثلا المجلس العسكرى السلطة مقابل أن لا يقترب منه أحد؟ وهو ما كانت تصبو إليه وثيقة على السلمى، التى كانت تعنى فى جانب منها الخروج الآمن من السلطة للمجلس العسكرى.. أتصور أن هذا كان هو أحد الحلول، ولكن كلما أمعن المجلس فى استخدام القوة باتت هذه الصفقة مستحيلة، لأنه لا ثمن للدماء، وهو ما لم يدركه المجلس العسكرى.. الصفقة كانت ممكنة قبل السحل!!