منذ قيام الثورة، والحديث عن المؤامرات لا ينتهى ولا ينقطع، والتشكيك أيضا لا ينتهى ولا ينقطع.. الكل يشك فى الكل، ويتهم الكل، ويخوّن الكل.. الكل لديه اتهامات وتخوينات وتشكيكات، والكل -بلا استثناء- لا يقدّم دليلا واحدا على هذا، بخلاف اختيار مقاطع الفيديو، التى تؤيّد وجهة نظره، وتجاهل تلك التى تتعارض معها، وترديد الشائعة التى تتناسب مع هواه، واستنكار كل ما يخالف هواه.. الديكتاتورية الفاشية الرهيبة، صارت أساس التعامل بين الجميع، فإياك أن تقول رأيا يخالف من يصرخون بصوت يعلو صوتك، أيا كان ما يقولونه أو يفعلونه، وإلا شنوا عليك حملة مسعورة، دافعهم الوحيد فيها هو الشك المرضى، فى كل شىء وأى شىء.. وإياك أن ترى غير ما يريدون، وإلا فلن تنجو من تهديداتهم، وسبابهم، وغضبهم، و.. أيضا بلا دليل أو سند.. فكيف يمكن أن تصل إلى الحقيقة، أى حقيقة، فى ظروف بالغة الانفعال والاندفاع كهذه؟ والحديث عن أى مؤامرة، من أى جانب، وضد أى جانب، والرغبة فى التوصّل إلى الحقائق فيها، يحتّم دراسة كل المعطيات «الحقيقية»، بعقل وحكمة فقط، ودون حماس أو انفعال أو اندفاع، لأن الثلاثة يُذهبون العقل، ويغشون البصر، ويعمون القلب.. ومن المستحيل، فى الوقت ذاته، أن تتوصّل إلى أى حقيقة، دون أن تعتمد بعض الثوابت، التى يبدأ من عندها البحث، وأن لا تكون تلك الثوابت هى ثوابت من وجهة نظرك وحدك، ونابعة من غضبك، أو من تحيّزك لفئة دون أخرى، بل من الضرورى أن تكون ثوابت عامة، متفقا عليها، منك وممن يخالفونك الرأى، وإلا فلن تصل إلى الحقيقة أبدا، بل ستصل فقط إلى ما تريد إقناع نفسك بأنه الحقيقة، علما بأن الحقيقة الفعلية هى التى ستبنى النتائج، سواء أقبلت بها أو رفضتها، وهى لن تبالى بغضبك أو حماستك، أو انفعالاتك، أو حتى وجهات نظرك، لأنها فى النهاية، الحقيقة.. ثم عليك أن تبدأ من نقطة ما، وتطرح عندها الأسئلة المناسبة، وأن لا تفترض النتائج، قبل بدء البحث، لأن هذا كفيل بتوجيهك إلى وجهة خاطئة، حتى وإن لم تتعمّد هذا أو تقصده.. وقديما، كان لأحد أساتذتى الأفاضل قول، ما زلت أؤمن به، إذ كان يقول «إنك لو دخلت معملك، مستهدفا إثبات صحة نظرية ما، فأنت عالم فاشل، وإن دخلته، مستهدفا إثبات خطئها، فأنت أفشل، وإنما عليك أن تدخل معملك بعقل مجرّد، يبحث فى حيادية، عن صحة أو خطأ النظرية، وعندئذ فقط ستتوصّل إلى الحقيقة».. دعنا إذن نتجرّد من حماسنا، وانفعالاتنا، واندفاعاتنا، لنبدأ رحلة البحث عن الحقيقة.. حقيقة المؤامرة.