كنا نصل قلب ميدان التحرير فنهتف ونهنئ أنفسنا، وبعد دقائق تنطلق طلقات رصاص. فى ما بعد عرفنا أنها قادمة من أسطح الجامعة الأمريكية تضرب فتصيب وتقتل فينفض جمع الجموع ونتراجع مصحوبين بقنابل مسيلة للدموع تُرمى فوقنا من مدافع الشرطة تملأ الأنوف دخانا والعيون دموعا وبللا فتمسكنا أياد وتحضننا أخرى تمنعنا من التعثر والسقوط على الأرض وتثبّت وقفتنا عند المكان حتى نعاود ونعود إلى قلب ميدان التحرير، ومن كان يمسك حتى نتماسك هو الذى يرجع بعد قليل مضروبا أو دامعا مخنوقا فنمسكه نحن ونثبته، هكذا دورات متوالية متتالية من مئات وعشرات يشكلون مقدمة الاختراق لهذا الحصار الأمنى الذى نفكه لمئات الآلاف القادمين بعدنا ومن فرط دماثة المصريين ولطفهم فى هذه اللحظات التى تكاد تفصلنا فيها عن الموت سنتيمترات هى المسافة الفاصلة بيننا وبين من يموت شهيدا بجوارنا أن أحدا ممن أحاطنى لم يدخر وسعا ولا تمنّع عن أن يبذل جهدا مهما كانت سنه فى حمايتى ورعايتى، كان هذا التضامن إلى جانب ما غمرنى من فضل متظاهرين أفاضل على شخصى فإنه كشف عن رغبة حقيقية لدى المصريين فى الامتنان لمن وقف أمام ظلم حاكمهم فى الوقت الذى لم يكن فيه أحد مستعدا أن يقف مثلما وقف الآن بصدره وبعمره فى مواجهة رصاص نظام أضاف إلى فساده استبداده وإلى كليهما دمويته! الأمر لم ولن يكون شخصيا فى هذه اللحظة، بل هو أبعد من ذلك وأعمق فللشعب قدرة على الظهور الشاهب اللامع فى لحظة تاريخية ليصفى كل حساباته كما يدفع كل ديونه المستحقة، وهذا ما لم يفهمه مبارك ونظامه البوليسى يومها ولا بعدها، ولعله فى سجنه حتى الآن لم يفهمها أبدا، كان مبارك يحكم بلا شرعية، فانتخاباته مزورة ومزيفة واحتكاره للحكم سرمدى وأبدى بلا سند سياسى ولا أخلاقى ولا شعبى، وجوده مستمد من قاعدة «الحكم لمن غلب»، ومصدر الغلبة كان قوة الأمن وجبروته فى مواجهة ضعف الشعب أو استضعافه. هنا حين تعرت قوة مبارك الأمنية كان طبيعيا أن يسقط سنده الوحيد، فالشعب هو من غلب فى هذا النهار! فى هذه اللحظة كان الهجوم ضاغطا مستخدما كل ما توحيه الغزارة بأنها قوات يائسة كانت تدافع عن انسحابها الوشيك وتغطى اختفاءها المفاجئ بهذه الكثافة! إعياء سبع ساعات وأكثر من التظاهر والمشى تحت ضرب النار والدخان والمياه من ميدان الجيزة إلى ميدان التحرير جعلنى أتوقف ألتقط أنفاسى فوجدت سكرتيرى المخلص أحمد عبد الظاهر رفيقى منذ الدقيقة الأولى وكنا قد تفرقنا عند مبنى الأوبرا فى إحدى ضربات القنابل التى شتتت دائرتنا وذهب كل واحد فينا ببلل عيونه ودموعه وعماه وخله وبصله فى ركن يحتمى فيه بآخرين لم يبلعوا الدخان ولا ضربتهم القنابل، كان أحمد قد بحث عنى بطريقة مثيرة للإعجاب، فوسط مظاهرة من مليون مواطن تقريبا عرف كيف يسأل ببساطة؟ هل شفتم الأستاذ إبراهيم عيسى؟! ويبدو أنه كان يحصل على إجابات دقيقة بين كل هذا الزحام والخناق والحصار والدخان حتى إننى وجدته يمسك بكتفى يمنع عنى مطرا من الأسئلة جاءنى من عدد من المتظاهرين الذين توجهوا نحوى وأحاطونى بالسؤال الواحد فى ألف صيغة: ما معنى أن الجيش نزل يا أستاذ إبراهيم؟ هل يطبقون الأحكام العرفية؟ تناقل المتظاهرون خبر نزول الجيش نقلا عن التليفزيون الحكومى، والغريبة -قلت لهم- أننا نعيش فعلا أحكاما عرفية بدليل حياتنا ثلاثين عاما تحت قانون الطوارئ، أما نزول الجيش فيعنى عجز الشرطة عن حماية مبارك وأننا نجحنا فى جمعة الغضب. كان الخوف قد عرف طريقه ليكون هاجسا لديهم. هل يمكن أن يضربنا الجيش بالرصاص؟ كان ردى قبل أن أشاهد دبابة واحدة: مستحيل، لن يطلق الجيش رصاصة واحدة علينا، الجيش نزل يحمينا. بعد مرور أكثر من ستة أشهر على هذا المشهد مررت على ميدان التحرير ورأيت الشرطة العسكرية تملأ الميدان حصارا، ولدهشتى سألنى شخص عابر استوقفنى قائلا: هل الجيش ناوى يضرب؟!