· هذه لحظة اختيار.. وقبل أن تنزلق مصر إلي مصائر المجهول المخيف.. فمصر قادرة علي العصيان.. والشعب المصري قادر علي إخراج الكارت الأحمر وطرد السيد الرئيس ربما تكون هذه لحظة الكارت الأحمر. ففي ملاعب السياسة، كما في ملاعب الكرة، يخرج الكارت الأحمر في لحظة العقاب علي الخطأ الفادح أو الألعاب الخشنة. ونتصور أن الحكم في مصر تجاوز معني الخطأ الفادح في السياسة، وانتقل إلي معني الخطيئة من زمان، بل إن وجود حكم مبارك في ذاته خطيئة معلقة برقابنا إلي يوم يرحلون. فلا شرعية لحكم مبارك بأي معني، لاشرعية بإنجاز التاريخ، ولا شرعية بأصوات الناس. لاشرعية بمعاني التاريخ، وقد جاء مبارك إلي الحكم بمنطق الصدفة، وفي لحظة قدر عاصف بانقلابات قلبت بطن مصر، وخلعت ركائز هويتها، وأضاعت طريقها، وانتهت بها إلي مراسي التيه، وكان دم الرئيس السادات الأحمر علي منصة العرض العسكري عاكسا لثورة غضب طافر، واحتمي وقتها مبارك من قصف الرصاص تحت الكراسي، ثم قفز - للمفارقة- إلي كرسي الرئاسة، ووعد بأنه لن يبقي في الرئاسة سوي لفترة واحدة، وكان كلامه وقتها مفهوما قياسا إلي تواضع طموحه، فقد ذهب علي عجل - أواسط 1975- إلي موعد مع الرئيس السادات، وكان يظن أنه ذاهب لينال أغلي المني، وأن السادات قد يعينه سفيرا في لندن «بلد الإكسلانسات»، أو أنه قد يصبح رئيسا لشركة مصر للطيران، وفوجئ باختياره نائبا للرئيس، ثم أصبح رئيسا مع مقتل السادات نفسه، أصبح رئيساً لبلد لا رئيسا لشركة كما كان يحلم، وحول البلد ذاته لشركة، ثم تراخي معني الشركة العامة إلي معني الشركة الخاصة، وتحولت الشركة إلي عائلة تأمر وتنهي، أي أنه انتهي بمصر الكبيرة إلي مجرد حكر للعائلة الصغيرة، وترك لأغلب المصريين الساحق فرصة وحيدة للنجاة، وهي الهرب من مصر كلها، ولو سألت أي مصري الآن عن حلمه الأفضل، فسوف يقول لك - ببساطة- أن أترك مصر، لايهم إلي أين؟، المهم أن يهرب من الجحيم، وأن يهرب من وجه مبارك ونظامه، فهذا هو أفضل إنجاز تاريخي حققه مبارك، وهو أن جعل المصريين يكرهون مصر ويهربون منها، ويفضلون الموت في قيعان البحر أو علي أرصفة الغربة. ولاشرعية لحكم مبارك بأصوات الناس ولا باستفتاء الشعب، بل إن فكرة الشعب ذاتها غير واردة في ذهن مبارك، فقد جبل علي مخافة الناس لا علي محبتهم، وعلي دوس كرامة الناس لاعلي طلب رضاهم، فقد كان أول حظه السياسي - بعد صدمة تعيينه نائبا- أن شهد انتفاضة 18 و19 يناير 1977، وأن شهد عزم الرئيس السادات علي الهرب في لحظة الخطر، وأن شهد هروب النظام إلي كسب رضا الأمريكيين والإسرائيليين بدلا من رضا الشعب المفقود، وأن شهد التحول إلي بناء جيش أمن داخلي أكبر من الجيش الوطني نفسه، ومع صدفة صعوده للرئاسة، زاد التحول بشراسة، وبدت خطوط الجبهة واستحكاماتها كأنها تنتقل بالجغرافيا، تنتقل من الخط الفاصل بين مصر وقوات كيان الاغتصاب الإسرائيلي، حيث حشدت مصر مليون جندي من دمها وأعصابها علي خط السلاح في حرب أكتوبر 1973، ثم جري التحول الخطر أواخر أيام السادات وطوال عهد مبارك ، وانتقل خط الصدام بالسلاح إلي الخط الفاصل بين الحكم وبين الشعب، وهكذا زاد عدد جنود وضباط النظام علي جبهة الحرب مع الشعب، زاد العدد - مع تضخم الأمن المركزي - إلي مايقرب من المليونين، وبدت هذه القوة السوداء المتضخمة كأنها الجدار العازل، بدت كأنها الشعب البديل لشعب الثمانين مليونا، وبدا نظام مبارك ميالا للاحتماء والاختباء من وراء تحصينات تشبه خط بارليف، وبإضافة قوانين التغليظ إلي قوات الغلظة، فقد ورث ولع الرئيس السادات بقوانين العيب في سنوات الأزمة بعد انتفاضة 1977، وأضاف إليها مبارك مددا لاينقطع، وحول قوانين السياسة إلي تحكمات وأوامر وقرارات حظر، وانتهي بأن جعلنا مسخرة العالم كله، فلدينا أسوأ دستور بأسوأ تعديلات، ولدينا أسوأ قوانين انتخابات، وأسوأ قانون أحزاب، وأسوأ قانون عقوبات في قضايا النشر، وحكم طوارئ يتجدد تلقائيا إلي 2010، وتفويض في صفقات السلاح يتجدد بذات التلقائية، والمعني - بالجملة - أن الحكم تحول إلي رأس معلق علي عصا أمنية - تماما كالرءوس المعلقة علي أبواب المدن القديمة تذكيرا بالعظة والعبرة، وفقد الحكم المقدرة علي التجدد بالسياسة، وقرر سجن البلد، وحجزها عن مواعيد فاتت وتفوت في قطار التاريخ. وفي لقطة كاميرا عن قرب، يبدو حكم الرئيس مبارك كأنه النبي سليمان حين مات، فلم يلحظ أحد أنه مات إلا حين نخر النمل العصا، فلم يعد لحكم مبارك من حياة بالسياسة، وإن وقعنا في وهم أنه حي بالسياسة، ولمجرد أن عصاه حاضرة تخزق عيوننا، فنحن بصدد حكم وغم واقع، بصدد قوة احتلال فيزيائي للمجال المصري، ولسنا بصدد لعبة سياسة، وحتي وإن طاشت ضرباتها، فلم يكن لحكم مبارك - في أي وقت- شرعية وجود، وقد كان حكم المحكمة الدستورية بصدد الإشراف القضائي - سنة 2000- بليغا في مغزاه، فقد قضت المحكمة بعدم شرعية كل انتخاب أو استفتاء جري أو يجري بغير الإشراف القضائي الكامل، ولم يحدث أن جري استفتاء أو انتخاب في زمن مبارك كله بالإشراف القضائي الكامل، استفتاءات رئاسة مبارك الأربعة الأولي - في 1981و 1987 و1993 و1999- جرت بغير الإشراف القضائي الكامل، ثم بعد تحول اختيار الرئيس من «الاستفتاء الصريح» إلي «الاستفتاء المقنع» في 2005، فقد جري ما هو أسوأ، فلم تزد نسبة الإقبال علي استفتاء تعديل المادة 76 من الدستور - في 25 مايو 2005- علي نسبة 5% في لجان الإشراف القضائي، وهي النسبة التي تدنت - فيما بعد- في استفتاء تعديل 34 مادة بالدستور في 26 مارس 2007، فقد انحدرت النسبة إلي 3% لاغير طبقا لتقارير نادي القضاة، وهو ما يشير إلي انحسار تام لفكرة الشعب في السياسة، وأنه جري إخراج الناس بنسبة تقترب من المائة بالمائة من اللعبة كلها، وأن وقت الإيهام بانتخابات أو استفتاءات قد ولي وانتهي، وأن القصة كلها صارت تعيينات في تعيينات، وعلي نحو ماجري في انتخاب مبارك لنفسه في دراما اغتصاب الرئاسة الخامسة، أو في تفصيل الدستور علي مقاسه ومقاس ابنه في تعديلات مارس 2007، أو في انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشوري، أو في انتخابات المحليات، أو في الانتخابات التكميلية علي مقاعد في مجلس الشعب، فقد طويت صفحة التصويت وجفت أقلام الاقتراع، وانتهينا ليس فقط إلي حكم غير شرعي، بل إلي حكم غصب كامل الأوصاف، وإلي حكم نهب عام يستند إلي عصا الكبت العام، وإلي حكم بأيديوجية السرقة وعصا الإكراه، وإلي حكم العائلة ومليارديراتها، وإلي حكم ملكي هارب ومتجول من قصره في القاهرة إلي قصوره في شرم الشيخ، وإلي مؤسسات دولة انتهت إلي مجرد أقنعة تفضح ولا تستر، وإلي ديكور وقبور وحقول أشباح، وإلي بواقي فساتين في مقلب نفايات. هل من فرصة لإخراج الكارت الأحمر للرئيس؟! الجواب - بغير تعجل - نعم، والشرط أن نودع أوهامنا، وأن نرميها في أقرب صفيحة زبالة، فما من فرصة لتسول عطف من نظام احتلال ناهب بالسليقة، ما من فرصة لنصح أو طلب صحوة ضمير بعد كل الذي جري، فالرئيس مبارك لن يستجيب لنصيحة، ونظام حكمه علي قدر عظيم من التناحة، فهو يعرف - بالغرائز- أن الخاتمة تقترب، وأنه ليس من فرصة لحسن الختام، ويقضي وقته خائفا من خطر ما، ويحلم بالهرب من شرطة التاريخ، ويقترب من خط نهاية، وإن تأخرت مواعيد الدفن، ويبدو - بمصطلحات الطب - في حالة تخشب رمي، والذي يموت لاتنفك يده عن قبضتها الأخيرة، وقد مات نظام مبارك سياسيا، ولا يعقل أن تعود الروح في الحياة الدنيا إلي جثث الموتي، فقد فقد النظام حساسية السياسة، ولم تعد له غير حاسة الأمن، والسياسة - بطبعها - تحتمل الاحتواء أو إبداء الرشد، لكن حاسة الأمن مطبوعة بالشك، وتميل إلي النفي والاستبعاد الكلي خشية من خطر محتمل أو موهوم، ونظام مبارك - بطبع الغرائز الأمنية - يدرك أنه لم يعد لديه اختيار، لا بالسياسة ولا بالاقتصاد، فقد سدت عليه المنافذ جميعا، وبات الجنرال العجوز في الحيرة وفي سراب المتاهة، وهو ما يعني - بوضوح أكثر - أن الرئيس مبارك لن يستجيب لنصائح بالتنحي، فهو يعرف ماجري من جرائم نهب وغصب وقتل البلد، ويعرف أنه لا اختيار سوي أن يبقي في القصر إلي أن يرث القبر، وحتي لايسائله أحد عما جري، فلا أحد يضمن لنظام مبارك - إن تنحي رئيسه - ألا تنتهي به الأقدار إلي محاكمات وأقفاص اتهام. ثم إنه لم يعد واردا أن يطلب الناس التغيير بالانتخابات، أو أن يحلموا برئيس آخر غير الرئيس الذي قصف عمر ثلاثة أجيال، اللهم إلا إذا أدركتنا عناية الأقدار، فلم تعد من فرصة لتنظيم انتخابات حرة أو شبه حرة في ظل حكم مبارك، والشرط الجوهري لتنظيم انتخابات حرة أن ينتهي نظام مبارك نفسه، فلم يعد من مجال للأخذ والعطاء في القصة البائسة، وليس أقل من المقاطعة السياسية التامة للنظام الفاقد الشرعية، فلا نجالسه، ولانحاوره، ولا نداوره، ولانرجوه، ولا ننصحه، ولانشارك في ألعابه الرديئة باسم الانتخابات أو الاستفتاءات، وقد سبق للمعارضة الرسمية- وغير الرسمية- أن اتخذت قرارا بمقاطعة نظام مبارك قبل أكثر من عام، فقد قاطع الجميع الاستفتاء علي تعديلات الانقلاب بالدستور، ودعوا الناس للمقاطعة، ومقاطعة الدستور هي مقاطعة للنظام، فالدستور ليس قانون مرور، الدستور هو حجر الزاوية في أي نظام سياسي، ومقاطعة الدستور - حكما- هي مقاطعة لنظام، والإجماع الوطني علي المقاطعة هو نقطة البدء، لكن المقاطعة في ذاتها ليست حلا، فالمقاطعة تعني - حكما- عدم شرعية نظام، وتعني في الآن نفسه شرعية الخروج عليه بالعصيان السلمي، وقد لايصح -بالبداهة - أن تتقدم إلي عصيان مدني شامل بدون توافر وسائله ولحظته المناسبة، وربما يصح أن تتقدم إلي درجات متداخلة من العصيان السياسي والاجتماعي القابل للتحول إلي عصيان مدني، وباستلهام دروس وعظات 6 أبريل أعظم أيام الشعب المصري القريبة. باختصار.. هذه لحظة اختيار، وقبل أن تنزلق مصر إلي مصائر المجهول المخيف، فمصر قادرة علي العصيان، والشعب المصري قادر علي إخراج الكارت الأحمر وطرد السيد الرئيس.